هذا الكفر مع قيام الأَدلة على وجوب الإيمان، فالهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف، والتقدير: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يقينيًّا مشابهًا للرؤية البصرية.
والمقصود من قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ مما حدثناه بذاتنا من غير مدخل فيه لغيرنا لا خلقا ولا كسبا، فالكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، فليس لله أيد على الحقيقة قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ والتعبير بذلك للإيذان بعظم خلقها ومنافعها، فإن صفة العظيم عظيمة، ومعنى الآية: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يشبه الرؤية بالبصر أن الله خلق لأجلهم مما أحدثه بنفسه بغير شريك أنعامًا ذات خلق بديع، ومنظر جميل، ومنافع عديدة يحتاجون إليها فهم لها مالكون بتمليكنا، مختصون بها لا يزاحمهم فيها مزاحم.
ويجوز أن يكون المعنى: فهم للتصرف فيها مالكون، يسخرونها ويضبطونها وينتفعون بلحومها وألبانها وأصوافها وأوبارها، وهذا الوجه يناسب معنى الآيتين التاليتين فكأَنهما شرح لملكيتهم لها، والاقتصار على الأنعام لعظم منافعها خصوصًا للعرب الذين كانوا أول من خوطبوا بالدعوة.
أي: وجعلناها لهم مذللة منقادة لما يريدونه منها، فبعضها ركوبهم - أي: مركوبهم - كالإبل، وبعضها يأكلون منها، والأكل منها عام، يتناول الأكل من ذات لحومها، والأكل من أثمانها وأثمان ألبانها وأوبارها وأشعارها وجلودها إذا باعوها، كما يقال: فلان يأكل من كسب يده.
وإنما قال: ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾، ولم يقل: ومنها مأكولهم على نحو سابقتها؛ ليفيد الاستمرار التجددي الذي يستفاد من الفعل المضارع، فإن الأكل يتجدد على الدوام، بخلاف الركوب فإنه في بعض الأحيان، ولأن بعضها هو الذي يركب، بخلاف الأكل فإنه عام لها، ولذا غير الأُسلوب، وقيل: إنه غُيِّر رعاية للفاصلة.