وخص عيسى بالذكر؛ لأَن رسالته آخر الرسالات قبل رسالة نبينا ﷺ مع ما تحتويه من التنويه ببعثته، والحديث عن رسالته ممَّا يكاد يكون إرهاصًا بها، ودعوة لها.
والمعنى: ثم أَرسلنا بعد نوح وإبراهيم ﵉ وعلى أعقابهم رسلنا متتابعين رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم ﵇ وآتيناه الإنجيل تفصيلًا لرسالته، وتصديقًا لدعوته، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ﴿رَأْفَةً﴾ أي: مودة ولينًا يجمعهم على الخير، ويدفع عنهم الشر، ﴿وَرَحْمَةً﴾ أي: تعطفًا ومحبة تجلب لهم المنافع، وتقيهم المضار، ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ أي: ورضينا منهم مبالغة في العبادة بالانقطاع إلى الخلوات، وتجنب النساء والشهوات وغير ذلك، إنها رهبانية استحدثوها من عند أنفسهم والتزموها عن رغبتهم ما فرضناها عليهم ولا رضيناها منهم إلاَّ ابتغاء وجه الله، أو ما ابتدعوها إلاَّ ابتغاء وجه الله، وكان عليهم بعد ذلك أن يحافظوا عليها، ويداوموا على عمل مقتضياتها لأَنها نذر التزموه، وعهد مع الله ينبغي الوفاء به، ولكنهم قصروا فيها فما رعوها حق رعايتها وذلك بتقصيرهم فيما أَلزموا به أَنفسهم من عمل الطاعات، وبأَن بعض من أَدرك منهم رسالة سيدنا محمَّد ﷺ لم يؤمن بها ولم يصدقها، ولذلك جاء قوله - تعالى -: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صادقًا - صحيحًا راعى فيها تحقيق الرهبانية بالعمل الصالح والإيمان برسول الله ﷺ آتيناه - أجره الذي يناسب إيمانه وعمله.
﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن حد الاتباع، بعيدون عن الإيمان الصحيح.
عن ابن مسعود قال: "كنت رديف رسول الله ﷺ على حمار فقال: يا ابن أُم عبد: هل تدرى من أَين أَحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعلمون بمعاصي الله، فغضب أَهل الإِيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإِيمان ثلات مرات فلم يبق منهم إلاَّ القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق