(وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) أَي: أَكبوا على ما هم عليه من الكفر بإِصرار والتزام، وقد صار الإِصرار حقيقة عرفية في الملازمة، والانهماك في الأَمر. قال الراغب: الإِصرار: التعمد في الذنب، والتشديد فيه، والامتناع من الإِقلاع عنه، وقد استكبروا عن اتباع نبيهم ﵇ استكبارًا عظيمًا، وقيل: استكبروا نوعًا من الاستكبار غير معهود قبلهم، والاستكبار: طلب الاتصاف بالكبر من غير استحقاق له.
وحاصل المعنى: أَن نوحًا ﵇ كان كلما دعاهم إِلى دين الحق ليظفروا بمغفرة ربهم عطَّلوا مسامعهم عن سماع الدعوة فجعلوا فيها أصابعهم على الكناية أَو على الحقيقة.
وبالغوا في التغطي بثيابهم كراهة النظر إِليه، ولئلا يعرفهم فيدعوهم إِلى ترك الكفر الذي أَقاموا عليه، وتمسكوا به، واستكبروا عن اتباعه ﵇ والانقياد لدعوته استكبارًا عظيمًا ليسوا أَهلا له.
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩)﴾ أَي: إِني دعوتهم تارة بعد أُخرى ومرة عقب غيرها. يعني أَنها دعوات متتابعة، على وجوه متخالفة، وأَساليب متغايرة، بعد أَن دعاهم في أَوقات متنوعة، وفي ذلك تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم أَوقاتها، و (ثُمَّ) لتفاوت وجوه الدعوة وأَساليبها لا للتراخي الزمني وقوله سبحانه: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) يشعر بأَن الجهر وقع مسبوقًا بالسر وهو الأليق بمن همُّه الاستجابة؛ لأَنه أَقرب إِليها لما فيه من اللطف بالمدعو عند دعوته به: أَي: أَنه ﵇ افتتح الدعوة بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنَّى بالمجاهرة، فلما لم تؤَثر ثلَّث بالجمع بين الإِسرار والإِعلان.