تخصيص الإِنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه، وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه، مع أَن الله قد خص الإِنسان بالرسالة إِلى الثقلين، وعن الزمخشري: أَن المناسب أَن يراد خلق الإِنسان بعد الأَمر بقراءَة القرآن تنبيهًا على أَن خلقه للقراءَة، والدراية، وعلى هذا يكون عدم ذكره في الجملة الأُولى، وذكره في الثانية قصدًا لتفخيمه بالإِيهام ثم التفسير، ودلالة على عجيب فطرته، وكان خلقه من دم جامد، لبيان كمال قدرته تعالى؛ بإِظهار ما بين حالتيه الأُولى والآخرة من التباين البيِّن، وللتنبيه على أَن الذي خلقه من هذه المادة ثم سواه بشرًا سويًّا في أَحسن تقويم، قادر على كل شيءٍ، ولما كان الإِنسان مرادًا به الجمع قيل:"علق" ولم يقل: من علقة.
أَي: امض لما أَمرتك به من القراءَة (وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) استئناف وارد لإِزاحة ما أَبداه ﷺ من العذر بقوله -صلوات الله وسلامه عليه- لجبريل ﵇: ما أَنا بقارئ، حين قال له: اقرأْ. يريد ﷺ أَن القراءَة شأْن من يكتب ويقرأَ، وأَنا أُمّيّ، فقيل له: وربك العظيم الكريم الذي أَمرك بالقراءَة، لا يدانيه كريم.
(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أَي: علَّم -سبحانه- وحده بواسطة الكتابة بالقلم وليس ذلك لغيره، علَّمه، وكما عَلَّم -سبحانه- القاري بواسطة الكتابة بالقلم يُعلِّمك القراءَة بدونها وإِن كنت أُميًّا، وحقيقة الكرم كما قيل: إِعطاءَ ما ينبغي لا لغرض، فهو صفة لا يشاركه تعالى في إِطلاقها أَحد.
(عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أَي: علمه بالقلم وبدونه من الأُمور الكلية والجزئية، والجلية، والخفية ما لم يخطر بباله، فدل على كمال كرمه - تعالى - حيث علم - سبحانه- عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم، قال القرطبي: نبه - سبحانه- على فضل علم الكتابة لما فيه من الفوائد العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أَخبار الأَولين ومقالتهم، ولا كتب الله المنزلة إِلاَّ بالكتابة، ولولاها ما استقامت أُمور الدين والدنيا وهذه الآيات الخمس أَول ما تنزل من القرآن كما ثبت في الصحاح، وقد فصل ذلك أَول السورة.