أكرم الله زكريا فَأجاب دعاءَه، وبعث إليه بالملائكة يبشرونه بذلك، فنادوه - وهو قائم يصلي في المسجد - أن الله تعالى يبشرك بولد ذَكَر سماه الله يحيى: مصدقًا بعيسى ﵇، الذي سُمِّيَ كلمة الله، لأنه خلقه بقوله:(كُنْ) فكان. ومعنى تصديقه به: إيمانه بأنه رسول الله. وهو بذلك، يكون أول من آمن به. ويحيى أكبر من عيسى.
فهذه البشارة كانت قبل أن تحمل مريم بعيسى، أو - على الأقل - قبل أن تلده. وذكر هذا التصديق، لتسفيه رأي اليهود في عيسى ﵇.
وقال أبو عبيدة: المراد بالكلمة هنا، الكتاب أو الوحي.
وقد وصف الله يحيى على لسان ملائكته المبشرين، بأنه سيكون سيدًا. والسيد: من يسود قومه. ثم أُطْلِق على كل فائق في الدين أو الدنيا. كما قاله بعض المحققين.
ويمكن أن يجتمع فيه الأمران: الرياسة في قومه، والتفوق في الدين. فإنه نبي الله، ومن الصالحين. كما سيأتي نَعْتُه بذلك.
ووصفته الملائكة أيضًا بأنه حصور .. وفسره ابن عباس: بأنه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. ولعل هذا، لأن انهماكه في العبادة، شغله عنهن.
والمدح بذلك، كناية عن مدحه باشتغاله بالعبادة عن متع الحياة الدنيا. وليس معناه أن ذلك في أفضل من الزواج مع الاشتغال بالعبادة. فإن الزواج من سنن الله في الأنبياء. ومن سننه في الجنس البشري، ليبقى خليفة عن الله تعالى في عمارة أرضه. وقد كان - على سنة يحيى - في ذلك - عيسى، ﵉.
وفَسَّر الحصورَ بعضُ المفسرين: لأنه المبالغ في الحصر النفس، وحبسها عن المعاصي والشهوات، وكان ضمن بشارة الملائكة لزكريا عن ولده يحيى: أنه سيكون نبيًّا ناشئًا من الأُصول الصالحين، أو معدودًا في عدادهم.
والمراد من الصلاح: ما فوق الصلاح الذي لابد منه في منصب النبوة، بأن يكون في أقصى مراتبه، حتى يكون للوصف به بعد النبوة فائدة.
وتأنيث الفعل (قَالَتْ) عند إسناده إلى الملائكة، لجواز ذلك عند إسناده إلى الجماعة.
فالملائكة ليسوا إناثا. ولهذا رَدَّ اللهُ على المشركين حين ادعوا ذلك فقال:"وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ"(١). وقد