للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما قريش فإنها يئست من تحقيق نصر حاسم، وأجهد رجالها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين وجلدهم، وخاصة بعد أن اطمأنوا وأنزل الله عليهم الأمنة والصمود فالتفوا حول النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك فقد كفّوا عن مطاردة المسلمين وعن محاولة اختراق قوتهم «١» . ولم يملك أبو سفيان إلّا أن يأمر بالانسحاب باتجاه مكة بعد أن توعد المسلمين بحرب أخرى في السنة القادمة فوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك «٢» .

وقد ثبت أن أبا سفيان خاطب المسلمين من بعد فقال: أفي القوم محمد؟» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجيبوه» ، فقال:

«أفي القوم ابن أبي قحافة؟» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجيبوه» ، فقال: «أفي القوم ابن الخطّاب؟» ، ثم قال: «إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا» . فلم يملك عمر نفسه فقال: «كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك» . قال أبو سفيان: «أعل هبل» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» . قالوا: «ما نقول؟» . قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ» . قال أبو سفيان: «لنا العزّى ولا عزّى لكم» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجيبوه» . قالوا: «ما نقول؟» . قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» . قال أبو سفيان: «يوم بيوم والحرب سجال. وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني» . قال عمر: «لا سواء قتلانا إلى الجنة وقتلاكم إلى النار» «٣» .

والواقع فأن السكوت عن استفسارات أبي سفيان وعدم إجابتها بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كانت تصغيرا لشأنه واحتقارا لكفره، فلما انتشى وملأ الكبر قلبه، بادر المسلمون إلى إخباره بحقيقة الأمر وردوا عليه بكل إيمان وشجاعة.

انسحبت قريش من أرض المعركة، وامتطت إبلها مكتفية بما حققت من نصر مكّنها من الانتقام، ودون أن تتطلع إلى نصر حاسم ضد المسلمين المعتصمين في شعاب أحد، بغية القضاء عليهم أو إلى غزو قاعدتهم المدينة «٤» .

وبعد أن غادرت قريش، أمر الرسول بدفن شهداء المسلمين وكانوا سبعين شهيدا «٥» ، ولم يؤسر أحد من المسلمين، في حين بلغ عدد قتلى قريش اثنين وعشرين رجلا «٦» .

جمع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين الرجلين من الشهداء في ثوب واحد، وقدم عند الدفن أحفظهم لكتاب الله، وأمر أن يدفنوا في دمائهم فلم يغسلوا ولم يصلّ عليهم وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» . ودفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وأمر أن يدفنوا حيث صرعوا «٧» .

وقد جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بعد دفن الشهداء وجعلهم صفّا وأثنى على ربه ودعاه أن يمنحهم نعيم الدنيا وحسن ثواب الآخرة وأن يقتل الكفرة المكذبين «٨» .


(١) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٢/ ٣٤٩) ، أحمد- المسند ٤/ ٢١١، ٦/ ١٨١.
(٢) ابن هشام- السيرة ٣/ ٤٩، الواقدي- المغازي ١/ ٢٩٧.
(٣) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٣٤٩) ، أحمد- المسند ٤/ ٢١١، ٦/ ١٨١ بإسناد حسن.
(٤) ابن هشام- السيرة النبوية ٣/ ١٣٦- ١٣٧، الواقدي- المغازي ١/ ٢٩٨، البيهقي- دلائل النبوة ٣/ ٢٨٢.
(٥) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث ٤٠٤٣) ، ابن هشام- السيرة ٣/ ١٧٩، الواقدي- المغازي ١/ ٢٠٠.
(٦) ابن هشام- السيرة ٣/ ١٨٢، الواقدي- المغازي ١/ ٣٠٧، أما عند ابن سعد- (الطبقات ٢/ ٤٢) فإن عددهم ثلاثة وعشرون.
(٧) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٣/ ٢٠٩- حديث ٤٠٧٩) ، أبو داود- السنن ٢/ ١٧٤.
(٨) أحمد- المسند ٣/ ٤٢٤، الحاكم- المستدرك ٣/ ٢٣.