للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالجافي ولا المهين «١» ، يعظّم النّعمة وإن دقّت ولا يذمّ منها شيئا، غير أنّه لم يكن يذمّ ذواقا ولا يمدحه «٢» ، ولا تغضبه الدّنيا ولا ما كان منها، فإذا تعوطي الحقّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتّى ينتصر له «٣» ، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار، أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدّث اتّصل بها فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى «٤» ، فإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه «٥» ، جلّ ضحكه التّبسّم ويفترّ عن مثل حبّ الغمام «٦» .

قال الحسن: فكتمتها الحسن زمانا، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عمّا سألته ووجدته قد سأل أباه- يعني عليّا كرّم الله وجهه- عن مدخله ومخرجه وشكله «٧» فلم يدع منها شيئا، فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله عزّ وجلّ، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثمّ جزّأ جزءه بينه وبين النّاس، فيردّ ذلك على العامّة بالخاصّة، ولا يدّخر عنهم شيئا «٨» .

وذكر دخول أصحابه عليه فقال: يدخلون روّادا ولا يفترقون إلّا عن ذواق، ويخرجون أدلّة «٩» ، وذكر مجلسه فقال: مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته «١٠» ، إذا


(١) الدمث: السهل اللين الخلق، والجافي: المعرض المتباعد عن الناس، والمهين: بضم الميم من الإهانة وهي الإذلال والاطراح، أي لا يهين أحدا من أصحابه أو من الناس، وبفتح الميم من المهانة وهي الحقارة والصغر.
(٢) يعظم النعمة: لا يستصغر شيئا أوتيه وإن كان صغيرا، دق الشيء: إذا صغر مقداره، والذواق: اسم ما يذاق باللسان أي لا يصف الطعام بطيب ولا بشاعة.
(٣) «إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد» أي إذا نيل من الحق أو أهمل أو تعرض للقدح فيه تنكر عليهم وخالف عادته معهم حتى لا يكاد يعرفه أحد منهم، ولا يثبت لغضبه شيء حتى ينتصر للحق، والتعاطي: الأخذ والتناول.
(٤) وإذا تحدث اتصل بها: أي أنه كان يشير بكفه إلى حديثه، وجمله فيضرب بباطن راحته.. إلخ تفسير لها.
(٥) أشاح: بالغ في الإعراض وجدّ فيه، أي: إذا غضب لم يكن ينتقم ويؤاخذ، بل يقنع بالإعراض عمن أغضبه، وغض الطرف عند الفرح: دليل على نفي البطر والأشر.
(٦) التبسم: أقل الضحك وأدناه، يفتر: أي يكشف عند التبسم عن أسنانه، من غير قهقهة، والغمام: السحاب، وحبه: البرد.
(٧) الشكل هنا: السيرة والطريقة.
(٨) أوى: رجع، التجزئة: القسمة، والجزء المختص بالله تعالى: هو اشتغاله بعبادته ومناجاته في ليله ونهاره، والجزء المختص بأهله: هو الوقت الذي يصحبهم ويعاشرهم فيه، الجزء المختص بنفسه، هو الذي لا يتعبد فيه ولا يعاشر أهله فقسمه بقسمين بينه وبين الناس «فيرد ذلك على العامة بالخاصة» أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت فكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة، وقيل إن الباء في «الخاصة» بمعنى من أي يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة وبدلا منهم.
(٩) الرواد جمع رائد: وهو الذي يتقدم القوم يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم، ويخرجون أدلة جمع دليل: أي يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه، يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء، ويروى أدلة جمع دليل: يريد يخرجون من عنده متواضعين متعظين بما سمعوا، «ولا يفترقون إلا عند ذواق» ضرب الذواق مثلا لما ينالون عنده من الخير، أي لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه، يقوم لهم مقام الطعام والشراب، لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظان الأجسام.
(١٠) لا تؤبن: لا تقذف ولا ترمي بعيب، والحرم جمع حرمة وهي المرأة وما يلزم الإنسان حفظه وصونه. لا تثنى فلتاته: أي لا يتحدّث عن مجلسه بهفوة أو زلة إن حدثت فيه من بعض القوم، الفلتات جمع فلتة: وهي هنا الزلة والسقطة، وقيل معناه: أنه لم تكن فيه فلتات فتثنى أي تذاع.