والمعنى: أما السفينة التي خَرَقْتُهَا قبل أن تصل إلى الميناء، فقد كانت لضعفاء من الناس يعملون في البحر أي يكسبون رزقهم بها عن طريقه، ولا يقدرون على مدافعة الظَّلَمَةِ عن أَنفسهم لضعفهم، فأردت بخرقها أن أُحدث فيها عيبا يمنع الظالم من مصادرتها وأَخْذها، لوجود هذا العيب فيها، ولم أُرِدْ أنْ أُغرق أَهلها كما توقعت يا موسى (١). وقد حكى الله عن الخضر ﵇ السبب في خرقه إِياها بقوله:
والوراءُ: اسم لما يتوارى عن العين، سواءٌ كان خلفك أَو أمامك، فهو من أسماء الأضداد والمراد به هنا المعنى الثاني، وبه قرأ ابن عباس:"وَكَانَ أمَامَهُم مَّلِكٌ".
والمعنى: وكان أمامهم أعوانُ ملكٍ ظالم يأخذون له كل سفينة صالحة من أصحابها غصبا
وقهرا، وذلك إمَّا على سبيل المصادرة والاستيلاء التام، وإِما على سبيل التسخير والاستغلال
دون أجر، ثم يردونها لذويها، واستعمال الوراء بمعنى الأمام شائع في اللغة، ومنه قول الشاعر
العربى:
أَليس ورائِي أن أدب على العصا … فيأْمن أعدائى ويَسْأمنِى أهلى
ولم تتعرض الآية الكريمة لما حدث للسفينة بعد نجاتها من الملك الظالم بسبب خرقها، أعادَ الخرقُ إلى الالتئام بقدرة الله تعالى كرامة للخضر؟ أم أنه رَتَقَ هذا الخرق بنفسه؟ أم أن في أصحابها من أَصلحها؟ أَم أصلحها سواهم بأجر من الخضر لأنه هو الذي خرقها؟ كل ذلك تركت الآية الحديث عنه لفطنة القارئ، فإنه يعتقد أن ذلك المصلح لا يمكن أن يترك ما أفسده دون إصلاح بأى طريق، ولكنها أبرزت الحكمة في خرقه إِياها، ليعلم موسى أن خرقها ليس لغرض الإِغراق أو الإِفساد، بل لما أَبداه من إِنْجَائِهَا من الظلَمَةِ.
(١) وأسند الإرادة إلى نفسه بقوله: "فأردت أن أعيبها" لأن عيبه لها إفساد في الظاهر، فكان من الأدب أن لا ينسبه إلى الله، فلهذا لم يقل فأراد ربك ومثله ما سيأتى في قتل الغلام "فأردنا أن يبدلهما" أي فأردت بقتلى إياه أن يبدلهما الخ، وكلاما في الحقيقة بأمر الله وإرادته لقوله تعالى: "وما فعلته عن أمرى".