بعد أَن أدب الله الخائضين قبل هذه الآية بأن يظنوا خيرًا بمن تجمعهم بهم أُخوة الإِيمان حين يسمعون عنهم قالة السوءِ، جاءَت هذه الآية بلون آخر من التأْديب.
والمعنى: هلَّا حين سمعتم ما لا يليق في شأْن الخِيرَة قلتم - مع الظن بهم خيرًا -: لا ينبغي لنا ولا يصح أن نتكلم بهذا عن الأَطهار البررة، بدلًا من ترديدكم له بالرواية عن مخترعيه، هلَّا قلتم متعجبين ومستكبرين لما يقولون: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ وكذب محُيِّرٌ خطيرٌ لا يصح أن يقال في عرض كرام المؤمنين.
وقد كان على هذا الخلق العالى الذي دعا إليه القرآن - كان عليه - أَصحاب القلوب الصافية، والعقول الوضيئة، والحس المرهف، فعن سعيد بن جبير أَن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أَمر عائشة ﵂ قال: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ وعن سعيد بن المسيب أَنه قال: كان رجلان من أَصحاب النبي ﷺ إذا سمعا شيئًا من ذلك قالا ما ذكر، وهما أُسامة بن زيد بن حارثة، وأبو أَيوب الأَنصارى ﵄، وأَخرج ابن مردويه عن عائشة ﵂ قالت: إن امرأَة أبي أَيوب الأَنصارى قالت له: يا أَبا أَيوب أَلا تسمع ما تَحَدَّثَ به الناس؟ فقال: ما يكون لنا أَن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومثل ذلك قال غيرهم وحق لهم أنْ يقولوا ذلك، فإِنه لا يجوز عقلًا أَن يختار الله لرسوله امرأَة فاجرة، فإن ذلك ينفر عن اتباعه، ويخل بحكمة البعثة - هكذا قال الإمام الرازى عليه رحمة الله.
يذكركم الله ويحذركم من أَن تعودوا طول حياتكم لمثل هذا الإِفك في عائشة، أَو سائر أَزواجه - صلى الله علي وسلم - لسوءِ عاقبته، وعظيم عقوبته، إن كنتم مؤمنين بالله فامتثلوا تحذيره واعملوا بنصيحته، لتأْمنوا عذابه وسوءَ حسابه، ويفهم من الآية الكريمة أن مَنْ سبَّ عائشة بعد هذا التحذير لا يكون من المؤمنين، وهذا ما ذهب إليه الإِمام مالك، فقد نقل القرطبى عنه أَنه يقول بكفره ووجوب قتله، ويعلل ابن العربى ذلك بأَنَّ الله برأَها فكل من سبها بما بَرَّاها لله منه فهو مكذب لله، ومن كذَّبَ اللهَ فهو كافر يُقْتَلُ لِرِدتَه، تلك هي خلاصة ما ذكره القرطبى في ذلك.