ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل، فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي جعل لمن اتقاه عند كل هم فرجا، ومع كل ضيق مخرجا، ولله در القائل:
وإذا العناية لاحظتك عيونها … نم فالمخاوف كلهن أمان
أرجع الله موسى إلى أُمه كي تطيب نفسها وتسرّ بعودته إليها، ولا تحزن بفراقه، ولتزداد علما بأن جميع ما وعد الله حق لا خُلف فيه من رده إليها وجعله من المرسلين، بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون، ويشبه أن تكون جملة ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ تعريضا بما فرط من أمه حين سمعت بخبر موسى ووقوعه في يد عدو الله فرعون، فنسيت وعد الله فجزعت وأصبح فؤادها فارغا بعد أن أضحى وليدها الرضيع كالحمل الوديع في عرين الأسد.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾: حكتم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة، كما قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾.
وقال القرطبي: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون، أي: كانوا في غفلة عن التقدير وسر القضاء.
لما ذكر الله - تعالى - مبدأ أمر موسى ﵇ ذكر أنه لما بلغ أشده وكمل وتم نضجه أعطاه الله الحكمة والعلم والمعرفة والحلم، ومثل ذلك الجزاء الذي جزينا به موسى وأمه نكافيء المحسنين على إحسانهم.
واختلف في زمان بلوغ الأشُّد والاستواء، أخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن ابن عباس أنه قال: الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء ما بين الثلاثين