وعلى هذين المفهومين، يكون معنى الآية: كان الناس على العقيدة الحقة: التي فطر الله الناس عليها، فأغواهم الشيطان فكفروا، فبعث الله النبيين، مبشرين من آمن بحسن الثواب، ومنذرين من كفر بشديد العقاب.
ومنها: أن الناس كانوا - قبل إرسال الرسل - على دين واحد، هو الكفر، بسبب إغواء الشيطان لهم، وصدهم عن سواء السبيل، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، رحمةً بهم، وإرشادًا لهم، لعلهم يهتدون، إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأُخراهم.
وقد جاء في عدد الأنبياء والمرسلين، ما أخرجه أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سأل النبي ﷺ: كم الأنبياء؟ قال: "مائةُ ألف واربعةٌ وعشرون ألفًا".
قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثة مائة وثلاثَةَ عَشَرَ: جم غفير".
﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾:
أي وأنزل معهم الكتب السماوية التي توضح لهم العبادات، وشرائع المعاملات، طبقًا للحق والعدل.
فإذا حادوا عن سواء السبيل، عادوا إلى هذه الكتب السماوية: يحتكمون إليها، فتردهم إلى الصواب.
ثم بين من اختلفوا في دين الله وبدلوا كتبه، فقال:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾:
أي: وما اختلف في الحق، أو في الكتاب المنزل، إلا الذين أُتوه من أرباب العلم والدراسة، بعد ما جاءَتهم الحجج الواضحات على وجوب الأخذ به، وعدم الاختلاف فيه.
وكان اختلافهم هذا: بغيًا بينهم، أي ظلمًا أو حسدًا حاصلًا بينهم، ونسوا - أو تناسوا - حظًا مما ذُكِّروا به، وبدّلوا نعمة الله كفرًا. فأصبحوا مصدرًا لإضلال الناس - وهم يعلمون - بدلًا من أن يكونوا لهم هداة مرشدين.
وهكذا عكسوا الأَمر، فجعلوا ما أنزله الله مُزيلًا للاختلاف - سببًا لبقائه ورسوخه.
﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾: