من ذلك من النصارى حينما بلغهم خبره عن الحبشة فوجدوه بالمسجد، فجلسوا إليه وكَلَّمُوه وسأَلوه - ورجال من قريش في أندبتهم حول الكعبة - فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عمَّا أرادوا دعاهم إلى الله - تعالى - وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فما نفر من قريش فقالوا لهم: خيَّبكم الله مِنْ رَكْبٍ، بعثكم من وَرَاءَكم مِنْ أهل دينكم ترتادون لهم لتأُتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدَّقْتُمُوه فيما قال، ما نعلم ركبًا أحمق منكم، أو كما قالوا - فقالوا لهم: سلامٌ عليكم، لا نُجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ أنفسنا خيرًا - ويقال: إنهم النَّفر النَّصارى من أهل نجران، فالله أعلم أيُّ ذلك كان، قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، وكذلك الآيات التي في سورة المائدة: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ إلى قوله ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ اهـ ابن كثير ج ٣ ص ٣٩٤.
المعنى: إنك - أيها الرسول - لا تقدر على هداية قلوب من أحببتهم إلى الحق، بأن تدخلهم في الإِسلام وإن بذلت في ذلك غاية المجهود، وجاوزت في السعى إليه كل حد معهود، ولكن الله يهدى من يشاء هدايته فيدخله في الإِسلام، وهو - سبحانه - أعلم بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء - سبحانه - هدايتهم، ومنهم من ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب (١).
وقال الزمخشري: المعنى: إنك لا تقدر أن تُدْخِل في الإِسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم؛ لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، ولكن الله - تعالى - يقدر على أن يُدْخِل من يشاءُ إدخاله، وهو الذي علم - سبحانه - أنه غير مطبوع على قلبه.
وقال الآلوسي: هذه الآية سيقت لتسليته ﷺ حيث لم ينجع في قومه الذين بحبهم إنذارُه ﵊ إيَّاهم وما جاء به من الحق، بل أصروا على ما هم