للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وبعض المفسرين جعل هذه العصبة من الرجال، وحددوها بأربعين رجلًا أقوياء، ونسبوا هذا إلى ابن عباس، حيث رووا عنه أن المفاتح هي الخزائن، وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلًا أقوياء.

وبعضهم جعلها من الحيوانات كالبغال والخيل، وإطلاق العصبة عليها لغوى؛ قال صاحب القاموس: العصبة - بالضم - من الرجال والخيل والطير: ما بين العشرة إلى الأربعين، كالعصابة - بالكسر - ونقول: إنهم أَخذوا هذا المعنى من العَصْب، بمعنى الشد، فإنها يشد بعضها أَزر بعض، وبعضهم جعل المفاتح كناية عن العلم والحفظ، كما فسروها في قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ فالمراد من الآية: وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والإحاطة بها ليثقل على الجماعة القوية من الرجال، لاختلاف أصنافها وكثرتها التي تتعب القائمين على حفظها وحسابها والإحاطة بها، وهذا هو تفسير أبي مسلم للآية، وهو - وإن استبعدوه - له سنده من قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ كما أنه تجنَّب فيه المبالغات التي ذكرها كثير من المفسرين في تفسيرها: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾.

قال ابن عطية: (إذْ قَالَ) متعلق ببغى عليهم، أي: بغى على قومه إذ قالوا له: لا تفرح ورجح بعض المفسرين تعلقه بمحذوف يقتضيه المقام، أي: فأظهر قارون الفرح بكنوزه إذ قال له الأتقياءُ من قومه: لا تفرح بها إن الله لا يحب الفرحين، وقد نهوه عن فرحه الذي أورثه البغى، ومنعه حق الله تعالى، فهذا هو الذي يُنْهى عنه، أما الفرح سرور بنعمة الله ورضا عنها مع أداء حقها المشروع فلا ينهى عنه؛ لأنه نوع من الشكر على النعم الذي حضَّن عليه الشرع، كما قال - تعالى -: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (١). والمراد من عدم محبة الله للفرحين البطرين: بغضه لهم، إبعادهم عن حضرته وعن كرمه.

والمعنى العام للآية: إن قارون كان من بني إسرائيل قوم موسى، فظلمهم وتكبر عليهم بما أُوتيه من علم وجاه ومال، وأعطيناه من الأموال التي كنزها وحبسها عن مَبَرَّات الآخرة - أَعطيناه - ما إن خزائنه لتثقل الجماعة القوية من الدواب التي تحملها، أو من الرجال القائمين على حفظها وحسابها وتدبير أمرها، فأظهر قارون الفرح والتفاخر بكنوزه، إذ قال له أتقياءُ قومه: لا تفرج بها فرح البطر والكفران، إن الله لا يحب الفرحين البطرين الذين يكفرون ولا يشكرون، بل يبغضهم وينتقم منهم.


(١) سورة إبراهيم، من الآية: ٣٧