قال ابن الحاجب في أَماليه: إنما أَعاد لفظ الشهر للإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التي تأْتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، ولم يقتصر على زمن الغدو ليقيس عليه زمن الرواح؛ لأَن الرياح كثيرًا ما تسكن، أَو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين.
وإنما لم يقل: ومع سليمان الريح كما قال - في داود -: يا جبال أوبي معه، لأَن حركتها بتسخير سليمان لها، وسلطانه عليها بأَمر ربها، فتسير معه حيث شاءَ وهذا على خلاف تأْويب الجبال، فإنه كان تبعًا لتأْويب داود ﵇ ولم يكن مسلطًا عليها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾. معناه: وأَجرينا له معدن النحاس بعد إذابته - كما ألنَّا الحديد لداود - فسال ونبع كما ينبع الماءُ من العين، فلذلك سمى عين القطر باسم ما آل إِليه، وكانت الأعمال تتأَتى به وهو بارد، ولم يلن ولا ذاب لأَحد قبله: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي: ومن الجن فريق يعمل بين يدي سليمان بإذن الله وأَمره كما ينبيءُ عنه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي: ومن يخرج من الجن عما أمرناهم به من طاعة سليمان والعمل بأَوامره وإرشاداته ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾: أَي: نصله يوم القيامة ألوانًا من عذاب جهنم جزاءً وفاقًا لخروجه على أَمرنا، فالمقصود بالعذاب عذاب الآخرة، وفي هذا دلالة على أَن الجن مكلفون كالبشر.
وعن الحسن قال: الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤُلاء وهؤُلاءِ مؤْمنون، وهم شركاءُ في الثواب والعقاب. ومن كان من هؤلاء وهؤُلاء مؤْمنًا فهو ولي الله - تعالى - ومن كان كافرًا فهو شيطان.
هذا وفي قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بذكر لفظ الرب، وقوله: عن أَمرنا بالإضافة إلى الضمير لمحة لطيفة؛ لأَن لفظ الرب ينبيءُ عن الرحمة، فناسب ذكره عند الإشارة إلى حفظ سليمان كما ناسب عند الإشارة إلى تعذيب الجن ذكر ضمير العظمة الموجب لزيادة الخوف.