أَي: ما سمعنا بهذا التوحيد الذي يدعونا إليه محمد في ملَّة النصارى آخر الْمِلَل، بل سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد من أَفواه النصارى؛ لأنهم كانوا يدينون بالتَّثْلِيث ويزعمون أنه الدَّين الَّذي جاء به عيسى ﵇، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ أَي: ما هذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد وترك عبادة الأصنام إلاَّ افتراء من غير سبق مِثْلٍ له، وكذب مصنوع اختلقه محمَّد وابتدعه.
استفهام إنكار، أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم وقالوا: أَخُصَّ محمَّد بنزول القرآن عليه من بيننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم؟ وهذا كقولهم: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (١) وأمثال هذه المقالات الباطلة ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد لرسول الله والحقد عليه أن خُصَّ دونهم بالرسالة، وفاز من بينهم بالنبوة ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ أَي: ليس كفرهم بالقرآن عن يقين بل هم في حيرة وتردُّد وتخبُّط في شأْن ذِكْرى وهو القرآن الذي أنزلته على رسولي لميلهم إلى التَّقليد، وإِعراضهم عن الأَدلة المؤَدِّية إلى العلم بحقِّيَّته، وليس عندهم بالنسبة للقرآن ما يقطعون به من التهم، فلذا تراهم ينسبونه إلى السِّحر تارة، وإلي الاختلاق مرة أخرى ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ أَي: بل إنهم لم يتحيروا ويتخبطوا إلاَّ لأَنهُمْ لم يذوقوا عذابي بعد، فاغتروا بطول الإمهال، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك، يعنى: أنهم لا يصدقون إلاَّ أَن يمسهم العذاب، فيضطروا إلى التصديق، ولن ينفعهم ذلك في حينئذ.
وفي التعبير بلمَّا دلالة على أن ذوقهم العذاب محقق وقريب الوقوع إن لم يؤمنوا.
يعني: أنهم ليسوا بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءُوا ويصرفوها عمن شاءُوا، ويتخيروا للنبوَّة بعض صناديدهم وأشرافهم، ويترفعوا بها عن محمد - عليه الصلاة