قررت الآية السابقة أن القيامة على وشك الإتيان ثم جاءَت هذه الآية بعدها توضح موقع الناس من أمرها، وحقيقة إيمانهم بها، وأبانت أنهم منها بين جاحد منكر يستعجل وقوعها سخرية واستبعادا، وبين مؤمن مصدق بها مشفق من وقوعها مع عمله لها أو تقصيره في شأنها.
والمعنى: يستعجل وقوع الساعة وينادى بحصولها المشركون المنكرون لها سخرية واستبعادا، كانوا يقولون: متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر حال ما نحن عليه، وما عليه محمَّد وأصحابه. أَما الذين آمنوا وصدقوا فدائمون على الخوف منها والإشفاق من وقوعها مع عملهم الصالح، وطاعتهم المرضية استقلالا لأعمالهم واستصغارا لحسناتهم، مع يقينهم أن حصولها هو الأمر المحقق الكائن لا محالة، وأشدهم خوفا منها هم المؤمنون المقصرون في العمل لها.
ولعل من حلية الأُسلوب، وجمال تنسيقه ما قاله الجلبى من أن الآية من الاحتباك، والأَصل: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلونها، وفي التعبير بالفعل المضارع في الجملة الأولى، وبالجملة الاسمية في الجملة الثانية ما يلمح إلى تجدد القلق والاضطراب في نفوس الذين لا يؤمنون بها وتمكن الاستقرار والاطمئنان في قلوب المشفقين منها.
وفي قوله - تعالى -: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) تنبيه على غفلة هؤلاء المشركين، واستعظام لإنكار الساعة، واستقباح لمماراتهم فيها، وتشككهم وتشكيكهم في حصولها، وهي أقرب الغائبات إلى المحسوسات، وذلك مما يقتضيه العقل الراجح، والفطنة السليمة.
هذه الآية من كتاب الله يدق فيها الفهم بقدر ما يرق فيها اللطف، فإن عباد الله منهم البرّ والفاجر، وفيهم المؤمن والكافر، وإن أرزاق الله التي تجرى على خلقه تتعدد حسا ومعنى، ويختلف جريها على الناس سعة وضيقًا، وإعطاء لشئ وحرمانا من آخر، وهي في جملتها لا تنقطع عن مخلوق - إنسانًا، أو حيوانا - قال - تعالى -: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)﴾ (١) ولهذا تقدم في الآية اللطف على إجراء الرزق، وتعقب إجراء الرزق بالقوة والعزة.