للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هذا، والترفع والزهد في الاستمتاع بلذائذ الحياة سمة الصالحين وحلية الأولياء، وأُسوتهم في ذلك رسولنا فقد ورد في صحيح مسلم وغيره أن عمر دخل على النبي في مشربته حين هجر نساءه، قال عمر: فالتفت فلم أر شيئًا يرد البصر إلا أُهُبًا (١). (جلودًا معطونة قد سطع ريحها)، فقال: يا رسول الله؛ أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحريير؟ فقال: فاستوى جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا بن الخطَّاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"، فقلت: استغفر الله لي، فقال: "اللهم اغفر له".

وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب الخبز والزيت، والخبز والخلّ، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض (الطري غير المجفف)، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع (مشقق غليظ) فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا: فقال: يا بن العاص، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق (٢) سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصليَّة (مشوية) كأنها كذا وكذا، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشنّ عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، إلى أن قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم العيش، ولكني سمعت الله - تعالى - يقول لأقوام: ﴿أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها﴾.

وقال جابر: اشتهى أهلي لحمًا فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئًا جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: ﴿أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها﴾


(١) أهبًا: جمع إهاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ.
(٢) العناق: الأنثى من ولد المعز.