لما حقَّر الله - تعالى - الدنيا، وصغَّر أَمرها، وعظم أَجر الآخرة بعث وحث عباده على المسارعة إليها، والمسابقة لنيل ما وعد فيها من المغفرة المنجية من العذاب الشديد، ومن الفوز بدخول الجنة ونعيم الرضوان الأَكبر، فقال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
والمعنى: سارعوا مسارعة السابقين لإخوانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة من ربكم وتحصيل موجباتها من الأَعمال الصالحة، وإلي جنَّة مبسوطة وافرة السعة عرضها كعرض السماء والأَرض فكيف بطولها؟ أعدها الله للذين آمنوا بالله ورسله عن إخلاص في العقيدة، وصدق في الإيمان، واجتهاد في عمل الصالحات فشملهم بذلك الرضا، وتمّ لهم الفوز، مع جزيل الجزاء وكريم العطاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ تفضلًا وإحسانًا في غير إيجاب عليه، ولا حساب له، والله ذو الفضل العظيم الذي لا ينفذ بالعطاء، ولا يخضع لغاية أو أَهواء.
وهكذا تطلب الآية السبق إلى مقتضيات المغفرة، ومؤهلات الفوز بالجنة لتنتقل بالعبد من التفاني في الحطام الزائل والمتاع الفاني إلى الإسراع في طلب النعيم المقيم، والمتاع الخالد.
وقدمت المغفرة على الجنة في الذكر؛ لأَنها تطهير يمهد لدخول الجنة تقديمًا للتخلية على التحلية، والمراد بقوله: ﴿عَرْضُهَا﴾ مساحتها فهي واسعة كسعة السموات والأرض، وقيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول وإذا كان العرض بهذا القدر فالطول أكبر كما هو المعتاد، والمراد أن مساحتها واسعة.
هاتان الآيتان: دعوة إلى التزام القصد والاعتدال، في تلقي الأَحداث، واستقبال النعم، فلا تفرط النفس في الأَسى والحزن على ما يفوتها، ولا يحملها تتابع النعم على البغى والطغيان، فإن كل ما يصيب الإنسان أو يناله مقدر له بتقدير الله، وبما سبق به الكتاب في الأَزل القديم. والله يحب من عباده أن يتلقوا المكاره بالرضا والصبر، وأَن يستقبلوا النعم بالتَّطامن والشكر. ومن رضي فله الرضا والأجر، ومن حمد فله المزيد والشكر.