اعلم أنَّ «ما» في لسانِ العربِ وفي كتابِ اللهِ وحديثِ نبيِّهِ ﷺ تأتي لمعانٍ شتَّى، وتكونُ حرفاً وتكون اسماً، فإذا كانت اسماً كانت موصولةً بمعنى:«الَّذي»، وموصوفةً نكرةً تدخلُ عليها «رُبَّ»، وللتَّعجُّبِ، وللاستفهامِ، وللجزاءِ، وتكون حرفاً نافيةً، وكافَّةً لعملِ «إنَّ»، وللحصرِ، والتَّحقيقِ بعد «إنْ»، وزائدةً، وللإبهامِ، والتَّهويلِ، أو التَّحقيرِ، وتأتي بمعنى: الصِّفةِ، فمِن ذلك قولُهُ:«ما أنا بقارئٍ»[خ¦٣] يحتملُ أن تكون ما النَّافيةُ، فنفَى عن نفسِهِ المعرفةَ حينئذٍ بالقراءةِ، وأنَّه أميٌّ لم يقرأْ ولم يكتبْ كما كانَ ﵇، ويحتملُ أنَّها استفهاميةٌ لمَّا قال له:«أقرأْ، قال له: ماذا أقرأ؟»، والأوَّلُ أظهرُ، لا سيَّما لأجْلِ الباء.
وفي حديثِ الخَضِرِ:«مجيءُ ما جاءَ بكَ؟» كذا ضبطناه غيرَ منوَّنِ الهمزةِ عن أبي بحرٍ؛ أي: مجيءُ طلبِ شأنٍ جاءَ بك، وتكون «ما» على هذا اسماً، وكان عندَ غيرِهِ من شيوخِنَا منوَّناً وتكون «ما» حرفاً، ومعناه: مجيءُ أمرٍ عظيمٍ جاءَ بكَ، على الاستعظامِ والتَّهويلِ، وقيل: هي هنا زائدةٌ، وقيل: صِفَةٌ كما قيل: لأمرٍ ما تُدُرِّعَتِ الدُّروعُ، وكما قال:
يا سيداً ما أنت مِن سيّدٍ
قوله في حديثِ تميمٍ الدَّاريِّ عن الدَّجَّال:«لا بَلْ مِن قِبَلِ المشرِقِ، ما هوَ مِن قِبَلِ المشرِقِ، ما هو، وأَومأَ بيدِهِ»: (ما) هنا صِلَةٌ وليست بنافيةٍ؛ أي: مِن قِبَلِ المشرِقِ هو.
وقوله:«ما هو بداخلٍ علينا أحدٌ بهذِه الرَّضَاعةِ»: «ما» هنا نافيةٌ.
وقوله في الذي يهِمُ في صَلاتِهِ:«لن يذهبَ عنكَ حتَّى تنصرفَ، وأنت تقولُ: ما أتممتُ صلاتِي» كذا في جميعِ الأصولِ في «الموطأ»، قال الكِنَانيُّ: أظنُّه: قد أتممتُ صلاتِي، قال القاضي ﵀: المعنى في الرِّوايةِ صحيحٌ، والمعنى: مُراغَمتُهُ الشَّيطانَ بذلك؛ أي: إنِّي وإنْ لم أُتِمَّها على ما تُوسوسُ به يا شيطانُ، فإنَّ ذلك محمولٌ عنِّي فلا أبالِي بكَ، وهذا إنَّما يجوَّز له عند العلماءِ المحقِّقينَ إذا طرأَ عليه الشَّكُّ بعد التَّمام، فأمَّا في نفسِهِا فيُلغِي الشَّكَّ ويَبني على اليقين، وقد بيَّنَّا هذا في كتاب:«التَّنبيهاتِ المستنبطة».