للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثمَّ كلَّت بعدَهم الهِمَم، وفتَرت الرَّغائبُ، وضعُف المَطلُوبُ والطَّالبُ، وقلَّ القائمُ مَقامَهم في المَشارِق والمَغاربِ، وكان جُهْدُ المُبرَّز في حملِ عِلْم السُّنن والآثارِ نَقْلَ ما أثبَت في كتابه، وأداءَ ما قيَّده فيه دون مَعرفةٍ لخطئه من صَوابه، إلَّا آحاداً من مَهرةِ العُلماءِ، وجَهابذَة الفُهماءِ، وأفراداً كدَرارِيِّ نُجومِ السَّماءِ، ولعَمرُ الله! إنَّ هذه بعدُ لَخُطَّةٌ أعطى صاحبُ الشَّريعةِ للمُتَّصف بها من الشَّرفِ والأجر قِسطَه، إذا وفَّى عملَه شرطَه، وأتقَن وعيَه وضبطَه، فقال في الحديثِ الصَّحيحِ: «نَضَّر الله امرَأً سمِعَ مقالَتي فوَعَاها، فأدَّاها كما سمِعَها، فرُبَّ حامِلِ فقهٍ ليس بفقيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفْقَهُ منه».

وقد كان فيمَن تقدَّم مَن هو بهذه السَّبيلِ منَ الاقتصار على أداء ما سمِع وروَى، وتبليغ ما ضبَط ووعَى، دون التَّكلُّم فيما لم يُحِط به علماً، أو التَّسوُّر على تبديل لفظٍ أو تأويل معنًى، وهي رُتبَةُ أكثر الرُّواة والمَشايخِ، وأمَّا الإتقانُ والمَعرفةُ ففي الأعلامِ والأئمَّةِ، لكنَّهم كانوا فيما تقدَّم كَثرَةً وجملَة.

وتسَاهَل النَّاسُ بعدُ في الأخذِ والأداءِ حتَّى أوْسَعوه اختلالاً، ولم يألوه خَبالاً، فتجِدُ الشَّيخَ المَسموعَ بشأنه وثَنائِه، المتكلَّفَ شاقَّ الرِّحلة للقائه، تنتظِم به المَحافل، ويتناوبُ الأخذَ عنه ما بين عالمٍ وجاهلٍ، وحضورُه كعَدَمِه؛ إذ لا يحفَظ حديثَه، ويُتقِن أداءَه وتحمُّله، ولا يُمسِك أصلَه فيعرِف خطَأه وخَللَه، بل يمسِكُ كتابَه سِواه، ممَّن لعلَّه لا يُوثَق بما يقوله ولا ما يراه، وربَّما كان مع الشَّيخِ مَن يتحدَّث معه، أو غدا مُستَثقِلاً نوماً، أو مفكِّراً في شؤُونه حتَّى لا يعقل ما سَمِعه، ولعلَّ الكتابَ المقرُوءَ عليه لم يَقرَأه قطُّ، ولا علِم ما فيه إلَّا في نوبته تلك، وإنَّما وَجَد سماعه عليه في حال صِغَره بخطِّ أبيه أو غَيرِه، أو ناوَله بعضُ مُتساهِلي الشُّيوخ ضبائرَ كتُبٍ وودائع أسْفار، لا يعلَم سوى ألقابها، أو أتته إجازةٌ فيه من بلدٍ سَحيقٍ بما لا يعرف وهو طِفل أو حَبَلُ حَبَلةٍ لم يُولَد بعدُ ولم يُنطَف، ثمَّ يُستعار للشَّيخِ كتابُ بعضِ من عُرِف سماعُه من شيُوخه أو يشتريه من السُّوق، ويَكتفي بأن يجِدَ عليه أثرَ دعوى بمُقابَلته وتَصحِيحِه.

ثمَّ ترَى الرَّاحلَ لهذا الشَّأنِ، الهاجرَ فيه حبيبَ الأهلِ ومألوفَ الأوطانِ، قد سلَك من التَّساهل

<<  <  ج: ص:  >  >>