خلَفِ هذه الأمَّة، وتكلَّم الأكياسُ والنُّقَّاد من الرُّواة في ذلك بمِقدار ما أوتُوه، فمن بين غالٍ ومُقصِّرٍ، ومَشكورٍ عَليمٍ ومُتكلِّفٍ هَجومٍ، فمِنهُم من جسَر على إصلاحِ ما خالَف الصَّوابَ عنده، وغيَّر الرِّواية بمُنتهَى عِلمه، وقَدْر إدْراكِه، وربَّما كان غَلَطُهُ في ذلك أشدَّ من استِدْراكِه؛ لأنَّه متى فُتِح هذا البابُ لم يوثَقْ بعدُ بتَحمُّل روايةٍ، ولا أُنِس إلى الاعتداد بسَماعٍ، مع أنَّه قد لا يُسَلَّم له ما رآه، ولا يُوافَق على ما أتاه؛ إذ فوْقَ كلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ.
ولهذا سدَّ المحقِّقون بابَ الحديثِ على المعنى، وشدَّدوا فيه، وهو الحقُّ الَّذي أعتَقِده ولا أمتَرِيه؛ إذ بابُ الاحتمالِ مَفتوحٌ، والكلامُ للتَّأويلِ مُعَرَّض، وأفهامُ النَّاس مختَلِفة، والرَّأيُ ليس في صَدرٍ واحدٍ، والمرءُ يُفتَن بكَلامِه ونَظرِه، والمغترُّ يعتَقِد الكمالَ في نَفسِه، فإذا فُتِح هذا البابُ، وأُورِدَت الأخبارُ على ما يَنفهِم للرَّاوي منها لم يتحقَّق أصلُ المَشرُوع، ولم يكن الثَّاني بالحكم على كلام الأوَّل بأولى من كلام الثَّالث على كلام الثَّاني، فيتدرَّج التَّأويل، وتتناسَخُ الأقاويل، وكفى بالحجَّة على دَفعِ هذا الرَّأي العليل دعاؤُه ﵇ في الحديثِ المَشهورِ المتقدِّم لمن أدَّى ما سَمِعه كما سَمِعه بعد أن شرَط عليه حِفظَه ووَعْيَه.
ففي الحديثِ حجَّةٌ وكِفايةٌ وغُنيَةٌ في الفُصول الَّتي خُضْنا فيها آنفاً من صحة الرِّواية لغير الفقيه، واشتراطِ الوَعيِ والحفظِ في السَّماعِ والأداءِ كما سَمِع، وصحَّةِ النَّقلِ وتَسليمِ التَّأويلِ لأهل الفقه والمَعرِفةِ، وإبانة العِلَّة في مَنعِ نَقلِ الخبرِ على المعنى لأهل العلمِ وغيرِهم، بتنبيهه على