قال القاضي ﵀: وهذا غير مُضطر إليه؛ إذ معنَى الحديثِ على لَفظِه، وصِحَّةُ الاستِثْناء على ظاهِرِه صحيح بَيِّنٌ، وأولى ممَّا ذُكِر وأصحُّ، وإنَّما المقَصدُ بالحديثِ التَّمثيلُ لعدَم النَّقص؛ إذ ما نقصَه العُصفورُ من البَحرِ لا يظهَر لرائِيه، فكأنَّه لم يُنقِصْ منه شيئًا، فكذلك هذا من عِلْم الله.
أو يكونُ راجعًا إلى المَعلُومات؛ أي: إنَّ ما عَلِمتُ أنا وأنت من جُملَةِ المَعلُوماتِ لله الَّتي لم يُطَّلَع عليها في التَّقديرِ والتَّمثيلِ للقلَّة والكثرَة كهذه النُّقطةِ من هذا البحرِ.
وذِكْرُ النَّقصِ هنا مجازٌ على كلِّ وجهٍ، ومحالٌ -في عِلْم الله تعالى ومَعلُوماته- في حقِّه، وإنَّما يتقدَّر في حقِّنا، ويدلُّ على هذا قولُه في الرِّواية الأُخرَى:«ما عِلْمِي وعِلْمُكَ وعِلمُ الخلائقِ في عِلمِ الله إلَّا مِقْدارُ ما غمَسَ هذا العُصفورُ مِنقَارَهُ»[خ¦٤٧٢٧].
وكذلك قوله:«لن تمَسَّه النَّارُ إلَّا تحِلَّةَ القَسَمِ»[خ¦٦٦٥٦] محمُولٌ على الاستِثْناء عند الأكثَرِ، وعِبارةٌ عن القِلَّة عند بَعضِهم، على ما نُفسِّره في حَرفِ الحاء [ح ل ل]، وقد يحتَمِل أن تكون «إلَّا» هاهنا بمعنَى: «ولا» على ما تقدَّم؛ أي: ولا مِقدار تحِلَّة القَسمِ.
وفي العَزلِ:«ما علَيكُم ألَّا تَفْعَلوا»[خ¦٢٥٤٢] بفَتحِ الهَمزةِ مُشدَّدة، قال غيرُ واحدٍ: هي إباحَةٌ؛ معناه: اعزلوا؛ أي: لا بأسَ أن تعزلوا، قال المُبرِّدُ: مَعناه لا بأسَ عليكم، و «لا» الثَّانية للطَّرحِ، «وقال الحسَنُ-في كتابِ مُسلمٍ: - كأنَّ هذا زجرٌ»، و «قال ابنُ سِيرينَ: لا عليكم؛ أقربُ إلى النَّهْيِ».
وفي حَديثِ:«مَن وقاه الله شرَّ اثنين ولج الجنَّة» قوله: «لا تُخْبِرْنا يا رسولَ الله» كذا ليحيَى بنِ يحيَى وابنِ القاسمِ وأكثرِ الرُّواةِ على النَّهيِّ، وعند القَعنبيِّ وابنِ بُكيرٍ ومُطرِّف ومَن وافَقَهم من رُوَاة «المُوطَّأ»: «ألَا تُخبِرُنا؟» على معنى العرضِ، والجوابُ محذوفٌ لدَلالةِ الكَلامِ عليه؛ أي: فنَمتَثِلُ ذلك أو نَنتهِي.