[الخلاف في أفضل الطاعات]
صلاة التطوع فيها مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم وهي: هل صلاة التطوع أفضل الطاعات، أم هي دون غيرها من الطاعات الأخر؟ فمن المعلوم أن العبد إذا تقرب إلى الله إمّا أن يتقرب بواجب لازمٍ عليه، فهذا الذي اصطلح عليه بالفرائض، وإما أن يتقرب بالنوافل التي لا تجب عليه.
فاختلف العلماء في الأفضل من النوافل الذي ينبغي للعبد أن يكثر منه، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من الصلوات، أم الأفضل أن يكثر من الصيام، أم الأفضل أن يكثر من الذكر، أم الأفضل أن يكثر من الجهاد في سبيل الله، أم من الدعوة، أم من العلم؟ فقال الجمهور: أفضل الطاعات وأشرفها وأزكاها وأعظمها نفعاً للعبد في الدنيا والآخرة طلب العلم وتعليم الناس، ويعبرون عنه بقولهم: العلم.
فهو أفضل الطاعات وأشرف القربات لورود النصوص في الكتاب والسنة الدالة على عظيم منزلة أهله وشرفهم وعلوّ درجتهم وعظيم بلائهم، قال الله عز وجل في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، وهذا الاستفهام يدل على أنهم لا يستوون، فهذا نصٌ من كتاب الله يدل على أنه لا يستوي العالم والجاهل.
ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قد قرن العلم بالإيمان، وأخبر عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١]، وقال: [درجات] ولم يقل: درجة.
والتعبير بالنكرة بصيغة الجمع يدل على أنها كثيرةٌ بإذن الله عز وجل.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل رباط طالب العلم وصبره على طلب العلم وتحمله لمشاق العلم، وكذلك تحمله لمشاق العمل بهذا العلم، ومجاهدته للنفس والشيطان والهوى حتى يبلغ مرتبة العلم والعمل، فإذا بلغ مرتبة العلم والعمل جاءت مرتبة الدعوة إلى الله عز وجل بتعليم الناس، فهذه المراتب الثلاث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علو درجتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال بعض السلف: في هذا دليل على أن من حُرم الفقه في الدين فقد حُرِم خيراً كثيراً.
فقوله: (من يرد الله به خيراً) يدل على أن الله أراد لأهل العلم خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك هم أنفع الناس وأصلح الناس، وأقربهم إلى الخير وأدعاهم إليه، وبهم تشحذ الهمم إلى الطاعات، ويتنافس الناس في الخيرات.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، ولذلك قالوا: إن المراد بهذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وهو يغدو إلى مجالس العلم لشرف هذه العبادة وعظيم منزلتها، فالدين لا يصان ولا يحفظ إلا بطلب العلم، ولذلك إذا كثر العلماء انتشر الدين بين الناس وانتشر الخير، وحمل الناس على الطاعات والخيرات، وإذا قلّ العلم كثر الجهل وعظمت المصائب والبلايا بين الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة فشو الجهل وقلة العلماء، وكان ابن عباس رضي الله عنه من تلامذة زيد بن ثابت، فلما توفي زيد قام على قبره وبكى، وقال: (ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم فلينظر هكذا، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فصلاح الأمة موقوف على كثرة العلماء العاملين، وعلى وجود العلماء العاملين المخلصين في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أفضل الأعمال فقال: أفضلها طلب العلم.
وفي رواية عنه: أفضلها العلم إذا صحت فيه النية.
قالوا: كيف تصح نيته؟ قالوا: ينوي أن يتواضع فيه، وأن يعلمه الناس.
أي: ينوي أن يجعل علمه للآخرة، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:٨٣]، فينوي أن يصحح نيته، فهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.
فهذا هو قول جمهور العلماء، ومن تأمل الواقع وتأمل الحال فإنه لا يشك أن طلب العلم هو أفضل القربات وأجلها وأعظمها.
فالمقصود أنه ظهر من ظاهر دليل الكتاب والسنة أن طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس أفضل وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وإذا تعارضت عند الإنسان الأعمال الخيرية فليبدأ بطلب العلم، ثم انظر إلى دليل العقل والنظر، فإنك إذا تأملت كثيراً من المشاكل والنوازل والمعضلات والمشكلات تجد أنها لا تحل إلا بالعلم، ولا يمكن للناس أن يجدوا من يحل لهم المشكلات ويرفعها عنهم بإذن الله عز وجل إلا العالم العامل، فالرجل يأتيك في جوف الليل لا يدري هل امرأته تحل له أو لا تحل له، حيث قال لها: أنت طالق، فقال كلمةً لا يدري أهي بها حرام أم حلال.
ويأتيك الناس وقد عظمت الفتن والخصومات بينهم في الأراضي والأموال، ويحتاجون إلى من يفصل بينهم.
بل قد تجد العالم مشلول الجسد لا يستطيع أن يبرح مكانه، وقد تجده مشوه الخلقة، ولكن عنده لسان ينبئ به عن حكم الله عز وجل، فتضعه الناس فوق رؤوسها بهذا العلم، لشرفه وعلو منزلته وعظيم بلائه.
فالمقصود أنه لا يشك أحد في عظيم فضل هذا العمل، ولو تأملت العالم وهو يسهر الليالي فيجيب الناس عن المشكلات والمسائل فإنك لا تشك أن طلب العلم وتعليمه أفضل.
وقال بعض العلماء: إن الجهاد أفضل لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل، وكسر بأس الذين كفروا، وصد العدو.
وهذا إنما يراد به جهاد النفل وليس جهاد الفرض؛ لأنهم اتفقوا على أن الفرائض ليست بداخلة في هذا الخلاف، فإذا تعين العلم أو تعين الجهاد فلا يدخلان في هذا الخلاف، إنما الكلام هنا على النافلة، أي: جهاد النفل، وهو جهاد الطلب، واحتج هؤلاء الذين قالوا: إن الجهاد أفضل فقالوا: إن إعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دين الله متوقفان على الجهاد، ويفتقران إلى مجالدة أعداء الله عز وجل، حتى ينتشر التوحيد، وترفع راية الإسلام، ويكون في ذلك الخير لأهل الأرض جميعاً، فلذلك يكون الجهاد هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.
وهذا القول يقول به الإمام أحمد، ففي رواية عنه أن الجهاد أفضل الطاعات.
وهناك قول ثالث في المسألة أن أفضل الطاعات وأشرفها الصلاة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، ولما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سعادة المؤمن كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة الفقيه).
فقالوا: إن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل الصلاة، ولأنها في أصلها عماد الدين، فتشرف بشرف أصلها.
وأصح هذه الأقوال كما ذكرنا هو القول بأن طلب العلم والعمل به والدعوة إليه أفضل وأشرف وأكمل هذه الطاعات كلها، بل إن ما ذُكِر من الأعمال الصالحة من الصلاة والجهاد يفتقر إلى العلم، فإذا نظرت إلى الجهاد فإن ثغور الجهاد لا تملأ ولا يمكن أن تقوى عزائم المجاهدين إلا بالعلم، وابحث عن ثغرٍ فيه طالب علمٍ يذكر الناس ويعظ الناس فستجد نفوسهم معلقة بالله سبحانه وتعالى، وتجدهم أقوى شكيمة وأشد بأساً وأعظم حميةً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مع أعلم من على وجه الأرض صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخرج الناس للنفير وتسد الثغور بغير العلماء؟ فالعلم هو أفضل الأعمال.
ثم إن الصلاة إذا تأملتها وجدتها تفتقر إلى علم، وتفتقر إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومعرفة ما يطرأ في الصلوات.