[الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ]
فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ].
أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:٢٢٥] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:٨٩] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغواً ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته.
والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف.
وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة.
فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان.
فحينئذٍ ينتقل من العموم إلى الخصوص.
والعكس، لو أن شخصاً جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة.
فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذٍ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملاً؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:١٥ - ١٦] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولاً واحداً فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني.
فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملاً، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جارٍ به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال.
ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذٍ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى.
وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة.
لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفاً، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذٍ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء.