للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء]

السؤال

أحسن الله إليكم، وأجزل لكم المثوبة والأجر، فضيلة الشيخ! التوسع في ضابط اللوث، ألا يؤدي إلى الوقوع في ظلم الغير، وهل للقاضي أن يقتصر على العداوة الظاهرة، كما في حديث عبد الله بن سهل، أثابكم الله؟

الجواب

باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كررنا النصيحة أكثر من مرة لطالب العلم بأن يكون عنده ورع، وأن يكون عنده أدب مع العلماء رحمهم الله، فكل شخص جاء ليقرأ شيئاً لم يفهمه، ولم يضبط بضوابط العلماء رحمهم الله واستغربه، وأراد حصر العلماء في شيء معين؛ فهذا من الخطأ بمكان، ولن يستطيع أن يفهم طالب العلم فهم العلماء ما دام بهذه الصفة؛ فعند أن تقول: التوسع في اللوث، من الذي قال لك أن هذه الضوابط التي ذكرها العلماء توسع، بعض طلاب العلم تعود أسلوب النقد، وإلا فضبط الشيء يمنع من التوسع فيه، فهذا تناقض من السائل أصلاً، توسع في ضابط اللوث! بالعكس العلماء حينما يضعون ضوابط للوث، يمنعون من التوسع فيه، حينما تأتي الشريعة بالعداوة الظاهرة بين اليهود والأنصار، ووجدت به القسامة.

فاعلم رحمك الله أن الشريعة تنبه بالنظير على نظيره، وبالمثيل على مثيله، وإلا فقد حجّرت واسعاً؛ لأنك إذا انطلقت من هذا المنطلق فستقول: لا أقبل إلا العداوة الدينية؛ لأن الذي ثبت في النص العداوة الدينية، أثبت لي أن العداوة بين القبائل يثبت بها القسامة، أين الدليل؟ لا دليل.

ومن هنا قال العلماء: اللوث العداوة، ثم وضعوا الضوابط فقالوا: العداوة الظاهرة، التي لا تكون مبنية على الشكوك والشبهات والتهم، وهذا صحيح؛ لأن الشريعة تعتبر أن العداوة الظاهرة هي التي تحمل على الضرر والأذى، وباب القسامة في باب الضرر والأذى؛ فينبغي أن تتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرط أن تفهم وتقعَّد وتأصَّل من خلال الفهم، أما أن يأتي شخص ويضع قواعد من عنده، فهذا توسع كما قلت، ونردها.

لكن أن يفهم شخص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الفهم محمود غير مذموم، مأجور غير مأزور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) يعني: يزيده فهماً.

فإذا كان ذلك فلماذا وضع العلماء ضوابط اللوث؟ أولاً: حكمة مشروعية القسامة؛ لها أبعاد أكثر مما يتصورها الإنسان القاصر في فهمه، فالأصل أن كل أهل محلة ومدينة ومنطقة وقرية وجماعة مسئولون عن محلتهم وقريتهم وجماعتهم؛ فإذا وجد القتيل بينهم طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وهذا نبه عليه الإمام الكاساني رحمه الله في (بدائع الصنائع)، فله كلام جميل نفيس لو يرجع إليه! لماذا شرعت القسامة وطولب بها، يعني مثلاً في العداواة الظاهرة حينما تكون أهل محلة وأهل قرية وأهل بلدة؟ لأنهم قصروا في حفظ محلتهم وقريتهم ومدينتهم، طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وتحملوا المسئولية ثم يلزمون بعد ذلك بأن يقوموا على محلتهم ويحفظوا دورهم.

ليست القسامة فقط أن تأتي بالناس يحلفون، فهذا له أبعاد بعيدة جدا، ً فأوجدت الشريعة الدية، وصوم شهرين متتابعين، وعتق الرقبة، وصوم الشهرين المتتابعين على شخص قتل خطأ، لماذا وهو قتل خطأ؟ قالوا: تعظيماً للدماء، ولذلك فالمسلم يأخذ حذره، فإذا جاء يصيد في البر، فهو يعلم أنه لو أخطأ سلاحه، فقتل مسلماً أنه سيلزم بديته، ويلزم بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إن عجز عنها، عندئذ يعرف أين يصيب وكيف يصيب، وكيف يحافظ على أرواح المسلمين.

وإذا جاء يقود سيارته، وهو يرى أنها قد تفضي بمن معه إلى الموت، بحيث قد تكون قديمة، فيتساهل في أشياء قد تفضي به إلى الموت، ثم تذكر ذلك دعاه ذلك إلى أن يتحفظ، ولذلك قالوا: إن القسامة شرعت في الدماء، ولم تشرع في الأطراف؛ تعظيماً لأمر الدماء.

فإذا قلت: القسامة محصورة في العداوة الظاهرة، بمثل ما ورد في حديث عبد الله بن سهل، كيف تحجم السنن بهذا التحجيم؟ فعندما يلزمك بالنظير من نظيره، يصبح الحكم بالقياس، وعند هذا يستوي العلماء والجهلاء، وما على أحد -إذا أراد أن يصير فقيهاً- إلا أن يحفظ الأحاديث، ويطبقها مثل ما وردت على ظاهرها، ولا يعمل فكراً ولا فهماً، وعندئذ يكون من حفظ السنن وفهمها على ظاهرها أعلم الناس وأعلم الخلق، فهذا ممكن أن يكون، فلابد من الفهم، ولابد من التقعيد، ليس هناك تثريب على من فهم إذا كان فهمه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

نحن نقول هذا؛ لأننا نعرف من خلال الطلب حينما كنا مع علمائنا ومشايخنا كانوا يمنعون الطالب من النقد المشكلة الآن في العصور الأخيرة، مسألة التربية على النقد، الآن الطالب يأتي ويقول: لماذا لا نقتصر على العداوة؟ ولو جئت أسأل الآن: ما هي الشروط التي ذكرناها؟ لم يستطع أن يرددها، نقول: قبل أن تنتقد العلماء اضبط ما يقال لك، مشكلتنا اليوم أن الشخص يجلس ويستمع، فهل يفهم هذا الشيء؟ ثم هل يتقبله أو لا يتقبله؟ هنا المحك، أما أن يأخذ شيئاً مستنبطاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يحاول أن يجلس ويضبط هذه الأشياء ويلخصها ويفهمها، ويقرأها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وعندها تكون منحة الله له بعد ضبط هذه العلوم، وتقريرها وتكرارها وإتقانها والإلمام بها، بعد ذلك يأتيك فتح الله عز وجل، وتصل إلى ما وصل إليه العلماء، وتضبط كما ضبط العلماء والفقهاء، ولا تعجل رحمك الله، لا تعجل فلست الآن في إطار النقد، ولا أفتح مجالاً لطلاب العلم في بداية الطلب للنقد، ومن جاء ناقداً رجع فاقداً.

أول شيء نريد ضبطه هو حفظ هذا العلم، وإتقانه، ثم بعد أن تصل إلى درجة تضبط فيها أصول الفقه، الذي يسلحك بسلاح الفهم، حتى تصل إلى درجة هؤلاء العلماء، عندها تعرف لماذا قالوا هذا الكلام.

والله ثم والله، ما من طالب علم يقعد ويؤصل بتأصيل العلماء، ويفهم ويقرأ الكتاب والسنة، بحيث يحضر تفسير القرآن على يد عالم أهل لتفسير كتاب الله، ثم يحضر دروس الحديث على يد عالم أهل لتفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلس السنوات تلو السنوات وهو يضبط ويحصل ويقرر، إلا جاء اليوم الذي يستوي فيه فهمه، وينضج فيه فكره، وإنه ليقرأ كلام العلماء، فيقرأ الصفحات التي كان بالأمس يعيبها، وإذا به لا يمل ولا يسأم، ويعذر العلماء حين قعّدوا وأصّلوا.

كنا في القديم نقرأ بعض المطولات، فنستغرب منها -نستغفر الله- هذا شيء عايشناه، وكان الوالد رحمه الله يمنعنا من المطولات في بداية الطلب.

وأقسم بالله ما نمدح أنفسنا، لكن بعد أن قرأنا ورأينا ضوابط العلماء، أصبحنا نقرأ عشرات الصفحات، لا نمل ولا نسأم ونعرف قيمة العالم، ونتلذذ بهذه الفروع المبنية على الأصول، ثم نجد أيضاً الشوارد والتتمات والفوائد والمسائل الملحقة، حتى إذا ما قررت الأصل، جاء بعد ذلك يقرر لنا دليله ووجه دلالته، وكيف دل على المسألة؟ وهل دلالته عامة أو خاصة؟ مطلقة أو مقيدة؟ بعد أن ننتهي من هذا كله، نأتي إلى تطبيقات هذه الفهوم التي فهمها العلماء رحمهم الله على ما عايشوه، فنجد كيف أنهم يختلفون في هذه التطبيقات، وكيف أن كلاً منهم يدلي بحجته، ويبين سبيله ومحجته، ثم بعد ذلك تأتي أنت من نفسك تجد أشياء في داخل نفسك ربما أنها تلحق بما ذكره العلماء.

ويمكن أن تتربى فيك ملكة هذا التأصيل والفهم، ومن هنا قالوا: لا يعرف قدر العالم إلا العالم.

مثال بسيط: الشخص إذا جاء وجلس عند عالم يفتي في مسألة من المسائل، فوجد العالم يقول: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال كذا وكذا، وهذا الحديث عام، فهذا جواب، في بعض الأحيان يقول: وهذا الحديث عام، إلا أنه يستثنى منه هذه المسألة.

عامة الناس إذا سمعوا العالم يفتي بهذه الفتوى، يكون الأمر عادياً عندهم؛ لأنه مفتٍ، فما يشعرون ولا يحسون بقيمة هذا العلم.

لكن لو جاء إنسان متمكن من الفقه، متمكن من هذا العلم، ينظر أول شيء إلى حكم الشيخ على المسألة.

ثانياً: دليله ووجه الدلالة، ثم لا يقف عند وجه الدلالة، بل يرى ما هي العبارات التي اختارها هذا الشيخ لبيان وجه الدلالة؟ وهل هذه العبارات محتملة أو غير محتملة؟ تفيد المقصود أم لا تفيد المقصود؟ هل هذه العبارات يستطيع أحد أن يستغلها في الفتوى أم لا؟ وهل العالم لما أجاب في هذه المسألة يقصد الفتوى، أو يقصد التوجيه، أو يقصد مطلق النصيحة؟ فلا يعرف العالم إلا العالم، فهل الذي تراه من الضوابط لا يعرف قدرها إلا من اشتغل بفهم النصوص وضبطها، يا سبحان الله! إذا قعّد العلماء وأصّلوا، قالوا: بالغوا، وإذا اختصروا ولم يسهبوا، قالوا: متون معقدة، وطلاسم غير واضحة، فلا يفهم العلماء إذا فصلوا وقعّدوا، ولا يسلم الاختصار.

الآن تجد بعض المعاصرين يقول لك: يا أخي! كتب المتقدمين هذه أساليبها صعبة، وغير واضحة نحتاج الآن أن نشرحها ونوضحها، ثم بعد ذلك يقول لك: نريد أن نقتصر فقط على المطلوب والأصل.

والآخر يأتي ويقول: هذه المطولات كثيرة، نريد الآن أن نختصرها ونختصر فيها على المراد، دعونا من الذين يقولون: أسهبوا، ومن الذين قالوا: اختصروا، دعونا نأخذ علماً موروثاً عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أخذوا هذا العلم بحقه، دعونا نتعلم، دعونا نضبط، قالوا: تعلم ثم تكلم، أما إنسان بمجرد أن يجلس يشتغل بالنقد، فهذا لا نريده، ولا نعول على طلاب علم بهذه المثابة، وثقوا ثقة تامة، فمثل بعض الإجابات أسهب فيها؛ لعموم الحاجة إليها والبلاء فيها؛ تحذيراً من ذلك، وبعض الأحيان أكثر من عشرين مسألة، نحتاج إلى بيان حكمها؛ لأنه إذا لم يكن لطالب العلم منهج، وإذا لم يكن له سبيل يقوم ويسدد، فلا يستطيع أن يصل إلى المراد.

فنحن نقول: إن ضوابط العلماء التي ذكروها، مبنية على أصول، وهذه الأصول ما دام أن السنة قد قررتها وبينتها؛ فلا إشكال، فإذا قلت: العداوة الظاهرة، ما تستطيع أن تضع لها ضابطاً.

والعداوة الظاهرة كيف نفهمها وكيف نُفهمها للغير، هذا هو الذي اعتنى العلماء رحمهم الله بوضعه بالضوابط التي تستشكلها.

وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا الأدب، وأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>