للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نصيحة في احترام العلماء وتقديرهم وترك النقد لكتبهم وأقوالهم]

السؤال

قول المصنف رحمه الله في الشفعة: (وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت) ألا يكون ذلك تكراراً حيث ذكر ذلك رحمه الله بمفهوم قوله في تعريف الشفعة: (وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي)؟

الجواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن واله.

أما بعد: فبناء الفروع على الأصول، وذكر المسائل المفصلة والتي تشتمل على التفصيل بعد تلك التعاريف المجملة ليس بتكرار، يعني: إذا ذكر المصنف رحمه الله في تعريفه، وطبق التعريف بالمسائل التي تفصل هذا التعريف لا يكون تكراراً؛ لأنه محتاج إليه، فلو أنه قال: هي استحقاق الشريك انتزاع حصته ممن انتقلت إليه بعوض وسكت، إذاً: ليس له هنا داعٍ أن يتكلم عن الشفعة كلها، وإلا كان تكراراً، فهذا كله تفصيل وبيان، ولذلك يقولون: بناء الفروع على الأصول محتاج إليه، فالتعريف أصل، والمسائل فروع مبنية على هذا الأصل الذي تعرف به حقيقة التعريف، ويتمكن طالب العلم من الضبط أكثر.

وأنبه على مسألة: وهي أن الشريعة كلها تكرار، وهذا التكرار له مغازٍ عظيمة جداً، حتى إن البعض تجده يقول: إن المحاضرات مكررة، والكلام مكرر، فنقول: القرآن مليء بالتكرار، والتكرار من أقوى الأساليب في الإقناع وثبوت الحق في نفسية المخاطب إلى درجة أن تصبح هذه الحقائق من المسلمات التي لا جدل فيها، والشيء إذا كرر على الإنسان يثبت، وأنت في صلاتك تكرر، وأركان الدين قائمة على التكرار، والمؤذن يأتي بأذان بلفظ مخصوص كل يوم خمس مرات، ثم تأتي وتقول: لم يشتمل على التوحيد، وعلى أقدس شيء وأعظم شيء حتى يصل إلى درجة أن الإنسان ما يمكن أن يقبل أي جدال أو نقاش في هذا الشيء المكرر، وقصص الأنبياء تكرر في القرآن حتى توصل إلى حد القناعة والتسليم، ولذلك لما كانت الأمة الإسلامية ممنوعة من دخول الأفكار عليها، ودائماً تكرر لها البدهيات والموروثات -كما يقولون- كانت في حصن حصين، وحرز مكين من الله سبحانه وتعالى، وما إن أصبحنا نمل، حتى إن الشخص صار يجد في نفسه الكسل عن سماع المكرر، فلو يجد شخص عنوان محاضرة عن الصبر يحس أنه شيء مكرر، لكن لو أنني أذهب وأحضر المحاضرة وأستمع هذه المرة والمرة الثانية والثالثة يصبح موضوع الصبر عندي عقيدة لا تقبل النقاش، ومبدأ لا يمكن أن أحيد عنه بشعرة، هذه أمور ما جاءت من فراغ، التكرار في مجالس العلم لا يمل، لأنك إذا أحببت شيئاً ألفته وتلذذت بتكراره، فإذا كان هذا من شرع الله ومن كتابه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تمله أذن، ولا تسأمه نفس، بل إن الإنسان يفرح ويحب أن يكرر هذا الشيء، ويعاد كرة ومرة.

فالعلماء رحمهم الله لا يكررون -بالتجربة والاستقراء- هذه المتون وهذا الكلام الموجود فيها إلا لتعلم أنه لا يضع المتن الفقهي إلا عالم مشهود له بالعلم، ولذلك خذ كتب الطبقات، لو جئت الأئمة والعلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في مذهب الإمام أحمد لوجدت أنهم كثر، قد لا يحصون عدداً في كل قرن وزمان، بل في القرن الواحد، لو تأخذ أئمة الحنابلة في القرن السادس أو الخامس أو الرابع أو الثالث الهجري الذين بلغوا درجة الاجتهاد قد تجد بعضهم وقد لا تجد بعضهم؛ لأن الأموات الذين لم يحصوا ولم يذكروا أكثر، فإذا كان الأمر بهذه الصفة في أمم -ما من مائة من الزمان تمر إلا وفيها جهابذة العلم- ويبقى المتن عشرة قرون أو يبقى أحد عشر قرناً وهو يدرس ويقرأ، ونأتي في القرن الخامس عشر لنقول: هذا تكرار في المتن! يا إخوان! ينبغي أن نعرف منزلتنا، أنا لا أتهكم في السائل، أنا أتهكم في أشياء كانت معروفة عندما كان الإنسان يعرف قدر غيره، وأنبه على أمور من الآفات عند طالب العلم، تعود طلاب العلم اليوم على مسألة النقد، ولذلك دائماً مسألة التكرار تضاد النقد؛ لأن الشيء المكرر ما يستطيع الإنسان يقبل فيه قولاً ولا يتراجع عنه، لكن إذا كان الشيء فيه مدخل للنقد تصبح المسلمات والبدهيات محل شك، ولذلك تجد الطالب في بعض الأنشطة التي تكون ثقافية أو نحوها يعود على قراءة الكتب ونقدها، نقول: لماذا؟ يقول: حتى تكون له شخصية! شخصية جاهلة متهورة في تخطئة السلف، وقد جاءني طالب ذات مرة وقال: أعطي كتاب زاد المعاد للإمام ابن القيم لأربعة أشخاص لدراسته ونقده وهم طلاب ثانوية! يعني: لابد على الإنسان أن يخاف من الله عز وجل ويعلم أن العلم أمانة ومسئولية.

التكرار والعيوب الموجودة في كتب العلماء تحتاج إلى تمحيص تحتاج إلى مراجعة تحتاج إلى سبر واختبار وكم من عائب قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم ينبغي أن يعلم أن هذا العلم عرض على دواوين وأئمة وعلماء وجهابذة، إن كان بالورع والصلاح فالله أعلم ولا نزكيهم على الله قد يكونون أتقى لله منا، وإن كان زمانهم الذي ملئ بالعلم والصلاح والخير أبلغ في ضبط العلم من الزمان الذي فيه الفتن، فأين يذهب عن الإنسان رشده وهو يرى هذه الحقائق التي تهيئ قبول هذا الحق والرضا به؟! اليوم ينبغي علينا أن نتعلم ضبط ما قاله العلماء، أول شيء لابد أن تفهم ماذا يقال في المتون، اترك مسألة النقد، يقول العلماء لطالب العلم: تعلم ثم تكلم، أولاً يتعلم وليس يتكلم ثم يتعلم، نتعلم ما هي هذه العبارات؟ ما هي معاني هذه المتون والكلمات التي اختيرت؟ والله إن بعض الكلمات تختار بعناية وتجمع أكثر من ثلاثة احتمالات؛ لأن المذهب يحتمل أكثر من احتمال، ما يأتون بكلام غير محتمل، يأتون بكلام محتمل حتى يجمع بصورة أوسع الخلاف الموجود داخل المذهب.

فأقول: لا ينبغي لطالب العلم أن يتسرع في النقد، وليس معنى هذا أن نقبل الغث والسمين، إنما معنى هذا أن نتكلم بعلم، والخطوات المطلوبة كما يلي: أولاً: فهم طالب العلم لكلام العلماء، والعناية بالعبارات والجمل.

ثانياً: معرفة معاني هذه الكلمات، والاعتناء بالجمل كما وردت عن العلماء لا يزاد فيها ولا ينقص منها، ثم معرفة ما معنى هذه الجملة، ولماذا قال المصنف كذا ولم يقل كذا؟ كما هو موجود في الشروح والحواشي والتقريرات التي ألفها أهل العلم.

ثالثاً: معرفة الدليل الذي دل على هذه المسألة التي تضمنتها الجملة، وبعدما تفهم وتعرف الدليل تبقى على هذا الحق الذي له دليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجد دليلاً أقوى منه، أو حجة محكمة ناسخة للذي اعتقدته أولاً، فتحيد عنه لأنك تعرف أن الحق في غيره، وهذا إذا انتقلت إلى درجة ثانية وهي درجة الاجتهاد، أما وأنت في طلب العلم لا تشوش على نفسك، ولا تذهب يمنة ولا يسرة، المهم عندنا الآن أن تفهم كلام العلماء، وأن تعلم أنك إذا جلست في أي مجلس علم وسمعت أحكاماً ومسائل فاعلم أنها تنقل من ذمة العالم إلى ذمتك، وأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذه الكلمات، فاعتن بها وبضبط الدليل حتى تجد دليلاً أصح منه متى ما طلبت درجة الاجتهاد، ولذلك فلابد لطالب العلم أن ينضبط بهذا المنهج الذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم، ويترك عنه التشويشات، ويترك عنه سوء الظن بالعلماء والقول: إنهم يخطئون وإنهم بشر فهذه كلمة حق أريد بها باطل، الخوارج قالوا: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق، فهل أحد يقول: الحكم لغير الله، قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل) الذي يأتي يقول لك: العلماء بشر يخطئون ويصيبون، ما وجدت إلا العلماء بشر، ما وجدت أن الله يقول: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:١٦٢] ما وجدت أن الله يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩]، لكن نقول: إنهم بشر ونقف عند هذا الحد ما ينبغي هذا، العلماء ورثة الأنبياء، والله يقول عن نبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:١١٠] لكن ماذا بعدها: {يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:١١٠] ما وقف على مقامه البشري عليه الصلاة والسلام، لكن قال: (إنما أنا بشر مثلكم) وأكد هذا فقال: (مثلكم)، ثم قال: (يوحى إلي) فالذي يأتي ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فنقول: أليس برسول من الله عز وجل؟! فينبغي أن نجمع هذا مع هذا لأنه من العدل الذي أمر الله به، وإذا قال: العالم بشر، نقول: نعم هو بشر، لكن الله فضله بالعلم، وفضله بأنوار الوحي التي في صدره {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٩].

ومما ينبغي علينا كطلاب علم فعله -وهذا روح العلم- أننا إذا كنا نقرأ دواوين السلف الصالح والأئمة لابد من أحد شعورين: إما شعور بالثقة حينما نعرف قدرهم ونعرف منازلهم وما فضلهم الله به، فعندها يفتح الله عز وجل على العبد، وأقول بالمناسبة خاصة الفقة فيه أخذ وعطاء، وفيه مسائل خلافية، وفيه ردود ومناقشات، والله إني لأقرأ الكلام للعالم وعندي أكثر من نقد عليه، فما إن أشعر بأنه أعلم، وأن الله فضله بذلك العلم وإذا بتلك الإشكالات حينما أعيد النظر المرة الأولى يتبدد بعضها ثم الثانية يتبدد بعضها ثم الثالثة يتبدد بعضها حتى تنكشف للإنسان الحقيقة، كالشخص الذي يخرج للشمس فإنه إذا كان في ظلام وداخل بيته ما يستطيع أن يتبين شعاع الشمس، وهكذا في العلم؛ فالطالب كان قبلاً في جهل، فإذا خرج فجأة للعلم لم يتبين له بوضوح.

ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم طفرة وغرور، وآخره كسرة وخشية لله سبحانه وتعالى) لماذا؟ لأنه في آخره عرف العلم وعرف قدره، وكم من مرة كنا نجلس مع العلماء من مشايخنا وهم يشرحون ونحب أن نأتي بكثير من الانتقادات في طريقة الشرح وأسلوبه، لكن والله ما إن تعلمنا حتى وجدنا أنهم أسمى وأرفع بكثير، عندما أحسسنا بالعبء الذي يحملونه، فأنت إذا كان عندك شعور بأن هذا من أهل العلم، وهذا العالم صاحب المتن من أهل العلم، وممن زكي علمه، ويكفيك أن الله أبقى كتابه قروناً وردحاً من الزمن، يدل على أن مذهب هذا الإمام من أئمة السنة والجماعة وغيره من المتون التي عرف أهلها بالصلاح والاستقامة، والحرص على دليل الكتاب والسنة، والتجرد

<<  <  ج:
ص:  >  >>