للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال]

وقوله: (وما ليس بعقوبة ولا مال).

ما ليس بعقوبة ولا مال مثل النكاح، فليس بعقوبة ولا مال، والطلاق ليس بعقوبة ولا مال، وكذلك الرجعة، كأن يقوم شخص ويطلق امرأته طلقة، وكانت الطلقة الأولى، وأراد أن يراجعها، فهذا ليس بمال وليس بعقوبة، فحينئذٍ تقبل فيه شهادة الرجلين العدلين، كما نص الله عز وجل على ذلك.

وقوله: (ولا يقصد به المال).

أي: لا يئول إلى المال، وسيأتي هذا النوع الثالث.

وقوله: (ويطلع عليه الرجال غالباً) ما كان من هذا الصنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يطلع عليه الرجال غالباً، بمعنى: أنه يقع أمام الرجال، مثل: النكاح، فإنه يجتمع ولي المرأة مع الزوج، وغالباً في محضر رجال، والطلاق نفس الشيء، وهذا يطلع عليه الرجال غالباً، فالرجل عندما يطلق امرأته غالباً يعلم صديقه وأخوه وقريبه، ولذلك إذا كانت الأمور التي يشهد بها من جنس ما يطلع عليه الرجال غالباً؛ فإنه يقبل شهادة الشاهدين من الرجال العدول على الصفة التي ذكرناها في الشهادة.

وقد أراد المصنف رحمه الله أن يحترز من النوع الذي تقبل فيه شهادة النساء، وهو الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً، فقال رحمه الله: (غالباً)، وإلا فالنساء قد يطلعن على النكاح ويطلعن على الطلاق، لكن لما قال: (غالباً)، فمعناه: أن هذا الشيء الذي ذكره قد يطلع عليه النساء.

وقوله: (كنكاح).

النكاح الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، وأكثر ما يوجد بين الرجال، وقد يقع بين النساء ولكن الحكم للغالب، ولماذا نقول: يطلع عليه الرجال غالباً، ويطلع عليه النساء غالباً؟ لأنه إذا كان يطلع عليه الرجال غالباً أجريته على القاعدة العامة، وجعلته تحت حكم الشريعة في الشهادة، في كون الشهادة تختص بالذكور، وتكون بالعدلين بالصفة التي ذكرناها، فإن خرج عن هذا إلى كونها تختص بالنساء، فهذا يسمونه: الخاص، والخاص لا يقدح في الأصل العام، وهذا الفقه أن تعرف ما جرى على الأصل فتطرد الدليل العام فيه، وذلك مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢]، فلما خص الله عز وجل الشهادة بالاثنين، وجعلها متعددة وجعلها خاصة بالرجال، ولم يذكر لها بدلاً من النساء، فعلمنا حينئذٍ أن هذا النوع يختص بالرجال، ووجدنا من صفاته الذي يكون وصفاً مناسباً للشرعية في الحكم، لما نظرنا الصفات وجدنا هذا الشيء غالباً في الرجال، ولذلك يكون جارياً على الأصل بقبول شهادة الرجلين فقط.

أما إذا أصبح هذا الشيء واقعاً بين النساء، ويقل اطلاع الرجال عليه، مثل العيوب الموجودة في النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً، وحينئذ إذا صارت الأمور التي تختص بالنساء كالعيوب الموجودة للمرأة ونحو ذلك مما يحتاج إلى اطلاع النساء، أو يطلع عليه النساء غالباً، فمعناه: أنها حالة خاصة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، فحينئذٍ تستثنى؛ لأنك لو قلت: لا أقبل إلا الرجال؛ لأوقعت الناس في حرجٍ عظيم، ولضاعت الحقوق، وهذا خلاف شرع الله عز وجل، ولأصبحت المرأة تتبذل حتى ينظر الرجل إلى بكارتها وثيوبتها، فلأن ينظر الجنس مع اتحاد الجنس أخف من أن ينظر الجنس مع اختلاف الجنس، وهذا هو شرع الله أن يعطي كل شيء حقه وقدره.

لكن هذا الاستثناء لا يعتبر قاعدة عامة، ومن هنا ضبطوه بقولهم: أو ما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً؛ لأنه إذا كان من جنس ما لا يطلع عليه إلا جنسٌ مخصوص، فحينئذٍ يحتاج الناس عند الإشهاد عليه إلى هذا الغالب، فإذا ألزمتهم بغير الغالب -وهو الرجل- أحرجتهم، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وإذا كان هذا الشيء من جنس النساء، وأدخلت الرجال على النساء أحرجتهم، والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، وضيقت عليهم والله عز وجل يريد أن ييسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥] فهذا هو وجه تفسير العلماء وتفريقهم بين ما يطلع عليه الرجال وما يطلع عليه النساء، ثم ضبط بالغالب؛ لأن الحكم للغالب، وإلا فقد يوجد اطلاع الرجال على هذه الأشياء في النادر، كالطبيب مثلاً عندما يطلع وينظر إلى بكارة المرأة وعدمها، كما لو اشتكت امرأة من ألم فاضطر أن ينظر إلى فرجها، فنظر فعلم أنها بكر، ثم بعد ذلك حدثت حادثة في نفس اليوم بعد خروجها واحتيج إلى شهادته، فقال الزوج: هي ثيب من أسبوع، وهذا قد كشف عليها بالأمس ورأى واطلع وقال: إنها لا زالت بكراً، وهذا النادر لا يناط بحكم الشهادة، فهذا وجه تخصيص العلماء رحمهم الله والفقهاء للمسألة بالغالب.

وقوله: (وطلاق).

كذلك الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، ولا يمتنع أن يطلع عليه النساء، فالطلاق يثبت بشاهدين من الرجال، ومثاله: قالت المرأة: إنها زوجة، وإن فلاناً توفي ولم يطلقها، وهي تستحق الميراث، فأقام ورثة الميت شهوداً على أنها مطلقة، وأنها بانت من مورثهم قبل وفاته، فنحكم بذلك ونعتبرها مطلقة، ولا حق لها في الميراث، إذاً يثبت الطلاق بشهادة الشاهدين العدلين المستوفيين للشروط، دون وجود موانع فيهما.

وقوله: (ورجعة).

كأن يقول: هذه زوجتي وقد راجعتها، ولذلك أطلب من القاضي أن تفسخ نكاحها من هذا الرجل، فقالت المرأة: ما راجعني، وأنا مكثت حتى خرجت من عدتي وتزوجت، وعندي شهود أني اعتددت، وأني ما تزوجت إلا بعد انتهاء العدة، فجاءت بالشهود وأثبتت أنها نكحت بعد انتهاء العدة، وجاء بالشهود على أنه راجعها في اليوم العاشر قبل حيضتها الثالثة، ما بين الثانية والثالثة، أو بين الحيضة الأولى والثانية، فحينئذٍ نحكم بالرجعة، وأنها زوجة للأول وليست زوجة للثاني، ونفسخ نكاح الثاني، إذاً تثبت الرجعة بشهادة الشاهدين.

وقوله: (وخلعٍ).

أي: لو قال: إنه خالع زوجته، وقد تقدم معنا أنه إذا ادعى أنه خالع المرأة، وادعت المرأة أن زوجها طلقها، فتسعى لإثبات حق لها، أو دفع ضرر عن نفسها، كأن تقول المرأة: إنك طلقتني وليس لك علي المهر، فقال: لا، بل خالعتك، فاختصم مثلاً هو وامرأته التي كانت في عصمته، وكلهم متفقون على أنه حصل فراق، لكن

السؤال

هل حصل الفراق بالخلع فيجب عليها أن ترد له المهر، أم حصل الفراق بالطلاق وليس له شيء؟ فهي تقول طلقني، وهو يقول: خالعتها، لم أطلقها، فلما اختصما جاء بشاهدين عدلين على أنه خالعها، وأن الذي وقعت به الفرقة هو الخلع وليس الطلاق، فاستحق أن يطالبها بالمهر، وحينئذٍ نحكم بثبوت حقه في ذلك بناءً على وجود شهادة شاهدين عدلين.

وقوله: (ونسبٍ).

كما لو قال: إنه الابن الوحيد لفلان، ويستحق ميراثه، فلما ادعى ذلك أنكر العصبة، كإخوان الميت، وقالوا: ليس له ذرية، وليس له ولد، وأنت لست ولداً له، فقام وجاء بشاهدين عدلين عند القاضي مقبولي الشهادة، فإنه لا مانع من قبول شهادتهما، ويُحكم بكونه ابناً لهذا الميت ويستحق الميراث، ويحجب بقية العصبة، إذاً يثبت النسب ويثبت ما يترتب على النسب بشهادة العدلين.

وقوله: (وولاءٍ).

كذلك إثبات الولاء يكون بشاهدين عدلين؛ لأن الولاء تترتب عليه أحكام شرعية، قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمته كلحمة النسب)، وهو أحد الأسباب الموجبة للإرث، فلو أن مولى أعتقه فلان من الناس، فتوفي هذا المولى، فإن مولاه يرثه إذا لم يكن له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، أو مثلاً كان يعني: هذا المولى هو المسلم الوحيد، فأعتقه في حياته، وهو مثلاً سيده، فلما أعتقه أصبح ثرياً وغنياً، فتوفي هذا المولى وليس معه أحد من ورثته، فإن المال سيذهب إلى بيت مال المسلمين؛ لأن بيت المال يرث من لا يورث، ففي هذه الحالة جاء سيده وأقام دعوى على أنه مولاه، وأنه يستحق المال بحكم أنه مولى من مواليه، فنقول له: أثبت ذلك، فجاء بشاهدين عدلين، فحينئذٍ له ذلك ويحكم بذلك المال له.

وقوله: (وإيصاءٍ إليه).

كذلك الوصية، وقد تقدمت أحكامها، كأن يقول: أوصى لي فلان بربع التركة، أو أوصى لي بهذه المزرعة، أو أوصى لي بهذه العمارة، فكذبه الورثة وقالوا: ما أوصى له، وهو رجل أجنبي، أو رجل غريب غير وراث، فقال له القاضي: ألك بينة؟ فأحضر شاهدين وشهدا، فحينئذٍ حكم بالشاهدين له.

وقوله: (يُقبل فيه رجلان).

أي: نقبل الرجلين؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:٢٨٢]، وهذا هو الأصل، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢]، وقال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه)، وكما قلنا: لابد من كونهما شاهدين عدلين بالصفة التي تقدمت في الشهود.

<<  <  ج:
ص:  >  >>