[تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس]
قال رحمه الله: [ولا يرفع حدث رجلٍ طهور يسير خلت به امرأه].
هذه مسألة ثانية، فقد ورد في حديث ابن عباس وميمونة وأصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة) فاختلف العلماء فيما إذا تطهرت امرأة من إناء وبقي بعد طهارتها ماء، هل يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من هذا الماء؟ فمذهب طائفة من العلماء الأخذ بظاهر الحديث، والمسألة لها صور: جاءت امرأة إلى سطل من الماء واغتسلت منه فبقي نصف الماء فيه، فاحتاج رجل أن يتوضأ بهذا النصف أو يغتسل به، فهل يصح وضوءه وغسله؟! ظاهر الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة).
فقال أموراً: أولاً: فضل يعني: الزيادة.
ثانياً: فضل طهور لا فضل شرب، فلو شربت من السطل لم يرد الخلاف، ولو غسلت بعض أعضاء الطهارة لا يرد الخلاف، لكن يقع الخلاف إذا حصلت الطهارة الكاملة، فلو أنها غسلت يدها أو وجهها من سطل فليس هذا بفضل طهور، وإنما محل الخلاف أن تتطهر طهارةً كاملة، إما طهارة صغرى كأن تتوضأ من الماء أو تغتسل منه، فيبقى بعد غسلها من السطل بقية، فهل من حق الرجل أن يتوضأ أو يغتسل به؟ قولان عند العلماء مشهوران، أصحهما: أنه لا يجوز لظاهر الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وطائفة من أصحاب الحديث والظاهرية، على أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل من فضل ماء خلت به المرأة، إذاً هناك شروط: أولاً: أن يكون المغتسل بهذا الماء أو المتوضئ امرأة، فلو كانت صبية طفلة صغيرة اغتسلت من السطل لا يقع الخلاف؛ لأن الخلاف في المرأة، والصبية ليست بامرأة.
ثانياً: أن يكون هناك تطهر كامل، إما من حدثٍ أصغر، أو من حدثٍ أكبر، فلو استعملته في شرب أو غسل وجه، أو جزء من أعضاء الوضوء والغسل لم يقع الخلاف.
ثالثاً: أن تخلو المرأة بذلك الماء، فلو اغتسلت أو توضأت أمام زوجها أو محرمها، واحتاج أن يتوضأ بعدها أو يغتسل فلا حرج، لأنها لم تخلُ به، إذاً أين محل الخلاف؟ فيما إذا تطهرت وكانت امرأة وخلت به، ففي هذه الحالة هل يجوز للرجل أن يتوضأ بهذا الماء؟ قلنا: الصحيح عدم جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وظاهر النهي التحريم.
وخالف الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا: يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من فضل طهور المرأة، ودليلهم حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تقول له: دع لي، ويقول لها: دعي لي) وجه الدلالة: أنها إذا غرفت الغرفة الأولى فإن الباقي الذي اغترف منه النبي صلى الله عليه وسلم فضلة، ثم لما اغترفت الثانية فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم الغرفة بعد غرفتها الثانية فقد اغترف من فضل.
وهذا الحديث يجاب عليه من وجوه: أولاً: أن محل الخلاف فيما إذا خلت، وهنا عائشة اجتمعت مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وثانياً: أن محل الخلاف أن تكمل الطهارة، وعائشة لم تكمل الطهارة.
وعلى هذا فنجمع بين الحديثين ونقول: هنا نصان خرجا من مشكاة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي نهى عن التطهر بفضل المرأة توضأ مع عائشة، ففهمنا أن النهي لا يشمل الذي فعل، فاشترطنا خلو المرأة به، فدليل الشروط التي ذكرناها هو ما ورد في هذا الحديث، فيعتبر هذا الحديث مقيداً لإطلاق الحديث الذي سبق النهي فيه، وبناءً على هذا نخلص بفائدة وهي: عدم جواز أن يتوضأ الرجل أو يغتسل من بقية وضوء أو غسل المرأة بشروط ذكرناها.
ثم يرد
السؤال
إذا كان لا يجوز له فهل إذا فعل نقول بإثمه وصحة وضوئه وغسله، أو نقول بإثمه وعدم صحة وضوئه؟ وجهان للعلماء: فمن يرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، يقول: لو اغتسل الرجل من هذا الماء أو توضأ به لم يصح لا غسله ولا وضوءه، وهي مسألة أصولية، وقد تكلمت عن هذه المسألة بإسهاب أيضاً في شرح بلوغ المرام، فنكتفي هنا بالقول الراجح من أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل أو يتوضأ من فضل طهور المرأة بالشروط التي ذكرناها.
(ولا يرفع حدث رجل طهور).
مفهوم ذلك أن المرأة لو اغتسلت بفضل المرأة، ما الحكم؟ يجوز، والوضوء صحيح والغسل صحيح، محل الخلاف إذا كان رجلاً.
يرد السؤال: لو أن خنثى أراد أن يتوضأ ويغتسل بفضل امرأة، فهل الخنثى ملحق بالرجال أو ملحق بالنساء؟ الخنثى له حالتان: الحالة الأولى: الخنثى البين، الذي بان كونه ذكراً أو كونه أنثى، وذلك بأمارات الرجولة أو أمارات الأنوثة، فهذا لا إشكال فيه، فإن ظهرت فيه علامات الرجولة فحكمه حكم الرجل، لا يتوضأ ولا يغتسل من فضل المرأة، وإن ظهرت فيه علامات الأنوثة فالحكم واضح بين.
الحالة الثانية: الإشكال عند العلماء في الخنثى إذا كان مشكلاً، بمعنى: ليس فيه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة، ولم يتميز، فهذا فيه ما لا يقل عن ثمانين مسألة، حيرت العلماء رحمة الله عليهم، هل يعطى حكم الرجل أو يعطى حكم المرأة؟ من ناحية الطهارة ومن ناحية الصلاة عليه وتغسيله وتكفينه إلى غير ذلك، المهم من هذه المسائل هذه المسألة، بعض العلماء يقول: الخنثى حكمه حكم المرأة؛ لأن اليقين فيه أنه في درجة المرأة، والشك أنه ارتفع إلى درجة الرجل؛ لأن الله فضل الرجل على المرأة وقال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:٣٦].
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:٢٢٨] فقالوا: نعطيه اليقين لكونه في حكم الإناث، وعلى هذا فيجوز له أن يتوضأ من فضل المرأة، لأنه آخذ حكم المرأة.
وعلى الوجه الثاني قالوا: فيه شبهة، فليس بمحض الأنوثة ولا الرجولة، فارتفع عن الأنوثة المحضة، ونزل عن الرجولة الكاملة، فأصبح بين بين، فلا يتوضأ بفضل المرأة، لأنه ليس بامرأة، فاشتبهنا في حكمه.
(ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة).
الطهور اليسير مثل: الذي في السطل، ومثل: الذي في الإناء المعروف، هذا يعتبر ماء طهوراً يسيراً، ولو قلنا بعموم هذا الحكم لصارت مصيبة؛ لأن البرك يغترف منها النساء، فلو أن امرأة اغترفت من بركة واغتسلت هل نقول: هذه البركة بكاملها لا يجوز للرجال أن يتوضئوا ويغتسلوا منها؟ ف
الجواب
أن هذا الحكم هو في الطهور اليسير، فالماء الموضوع في الأواني هو الماء الذي ورد فيه النص، وأما غيره فيبقى على الأصل.
(يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة).
قال بعض العلماء: شرط خلوها أن تكون في موضع لا يراها الرجل، وقال بعض العلماء: تكون فيها خلوة نكاح، بمعنى: أن لا تراها الأنظار، أو ترخى عليها الأستار ونحو ذلك.
المسألة الأخيرة: هل نهي الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويغتسل بفضل طهور المرأة تعبدي أو معلل؟ الصحيح أنه تعبدي لا نعقل علته، حكمة منه سبحانه، قال: هذا الماء توضئوا منه، وهذا الماء لا تتوضئوا منه، هذا الماء اغتسلوا منه وهذا الماء لا تغتسلوا منه، يبتلي عباده بما شاء، فليس الأمر معللاً، ولهذا يقولون: هذا الحكم تعبدي، بمعنى: لا يجري فيه القياس.
قال رحمه الله: [لطهارة كاملة عن حدث].
أي: بسبب حدث، فلو تطهرت طهارة كاملة لغير حدث كالغسلة المستحبة، فوجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حكمه حكم الغسلة الواجبة.
والصحيح القول الثاني: أنه ليس حكمه حكم الغسلة الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بفضل طهور المرأة) والطهور الغالب فيه: الواجب، فيعطى حكم الغالب ويهدر النادر.