[حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته]
قال المصنف رحمه الله: [إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه].
إذا وطئها ثم استبرأها بحيضة أو حيضتين، ثم ظهر فيها الحمل، تبين أنه ليس منه؛ لأنه بالاستبراء يتبين عدم الحمل، كما سيأتينا إن شاء الله في باب العدد والاستبراء، فإذا ظهر الحمل بعد الاستبراء ثبت عندنا أنه حمل غيره وليس بحمله، فلو استبرأها ثم بعد استبرائه لها بستة أشهر -بشرط ألا يطأها بعد الاستبراء- تبين أنها حامل، ووضعت بعد هذا الاستبراء بستة أشهر؛ فمن حقه أن ينفيه.
وقوله: (ويحلف عليه): هذا اليمين تسمى يمين التهمة، وستأتي إن شاء الله أيمان القضاء والأيمان التي تنزل منزلة الشهود، والأيمان التي تسمى أيمان التهم يدفع بها الضرر، وتكون في مسائل خاصة، وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ كل هذا سنذكره في باب الأيمان والدعاوي والبينات في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى، فيحلف بالله عز وجل أنه استبرأها، وأنه لم يحصل وطء منه بعد الاستبراء؛ لأنه قد يحلف أنه استبرأها ويحصل الوطء بعد الاستبراء فلا ينفيه؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا إذا استبرأها بعد وطئه لها، ولم يحصل وطء ثانٍ بعد الاستبراء؛ لأنه قد يستبرئها ويطؤها مرة ثانية فيكون الحمل من الوطء الثاني، والمراد أن يحلف أنه استبرأها ولم يطأها بعد استبرائها.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت؛ لحقه].
هذه المسألة ملتحقة بالمسألة التي قبل في النفي، فيقول: إنه حصل الوطء دون الفرج وأنزل دون الفرج أو في الفرج ولم ينزل، ففي هذه الحالة إذا قال: وقع مني هذا الشيء فإنه لا ينفعه؛ والولد ولده؛ لأنه إذا وطئها دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج وتحمل، وأيضاً هو أقر أن هناك وطئاً، فحينئذٍ أثبت على نفسه أنه تعاطى السبب الذي يمكن أن يكون منه الولد، والغالب أن من يطأ أنه ينزل، فإذا جاء بشيء خلاف الغالب وخلاف المعتاد فقال: لم أنزل، كانت فيه شبهة وتهمة؛ لأنه قد يقصد الإضرار بأمته.
والسبب في هذا أن بعض الناس كان فيهم شيء من الجاهلية، فيستنكفون من وطء الجواري حتى لا يأتي أولادهم منهن، فيعيرون ويعابون بهذا، وهذا من بقايا الجاهلية، وقد يضع الله من البركة والخير في ابن الجارية ما لا يضعه في ابن الحرة، فهذا من الجاهلية ونعرات الجاهلية، ومما ذكر عن زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه حينما لمزه هشام بن عبد الملك بذلك، قال له زيد: أتعيرني بذلك؟ هذا إسحاق أمه سارة، وقد جعل الله من نسله إخوان القردة والخنازير، وهذه هاجر كانت أمة لكن جعل الله منها خير الأولين والآخرين.
فمسألة أنها أمة أو أنها حرة تعد من مخلفات الجاهلية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، فهذه من النعرات ومن الأمراض والآفات التي بقيت من الجاهلية في نفوس بعض الناس، فوصل به الظلم أنه ينفي ولده منها استنكافاً، ومن حكمة الله -وهو من غريب ما يحدث كما في التاريخ- أنه ربما كان أولاد الجواري والإماء أكثر نجابة وأرجح عقلاً وأكثر فضلاً من غيرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يبتلي بشيء إلا عوض بخيرٍ منه.
على كل حال، نتكلم على الظلم ومجاوزة الحد، فالظلم أنهم كانوا يطئون الجواري ويتخلون عن أولادهم، فهذا ضيقت فيه الشريعة، ووقفت الشريعة أمام من يريد الإضرار بالمرأة والإضرار بالولد؛ لأن الولد يتضرر بنفي نسبته إلى والده، فبين رحمه الله أنه في هذه الحال لو قال: وطئتها وأولجت فيها وجامعتها ولكني لم أنزل، فإن هذا خلاف المعهود، والغالب أن الإنسان عند الشهوة لا يستحكم نفسه؛ فحينئذٍ لا يقبل قوله، ويبقى على الأصل.
وقوله: (أو عزلت) يعني: ما أنزلت في الفرج وإنما أنزلت خارج الفرج.
وقوله: (لحقه): أي: لحقه الولد ولم ينفعه هذا الكلام، فهذه كلها دعاوى فيها تهمة، ولا يقبل قوله فيها.