[خيار المجلس تعريفه ومشروعيته وأحكامه]
قال رحمه الله: [وهو أقسام] أي: يختلف بحسب اختلاف الموجبات، وهذه الأقسام منها ما اتفق العلماء على اعتباره من الخيارات، ومنها ما اختلف العلماء رحمهم الله فيه، ودلت السنة على رجحان اعتباره، ومنها ما يكون فيه الحكم بالتفصيل، فتارة يعتبر وتارة لا يعتبر.
فقوله رحمه الله: [وهو أقسام] إجمال قبل البيان والتفصيل.
وقوله: [الأول: خيار المجلس] المجلس اسم مكان من الجلوس، وهو المكان الذي يجلس فيه المتعاقدان، وسمي خيار مجلس؛ لأن لكلا المتعاقدين الحق في إمضاء صفقة البيع أو إلغائها ما داما جالسين في المكان الذي تعاقدا فيه، وإذا تفرقا فخرج أحدهما من الغرفة مثلاً وبقي الآخر، لزم البيع.
وهذا النوع من الخيار، دلت عليه الأدلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر، وحديث حكيم بن حزام، وحديث أبي برزة، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام:: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ومعنى الحديث: أن البيعين لكل واحد منهما الخيار ما داما لم يفترقا، فلو جلست مع رجل، وقال لك: عندي سيارة نوعها كذا، وصفاتها كذا وكذا، فعرفت السيارة، أو تكون على علم بها مثلاً فقال لك: أبيعك السيارة الفلانية التي تعرفها، أو العمارة الفلانية أو الأرض الفلانية في المخطط الفلاني، فقلت: قبلت، أو قال: أبيعك هذا الشيء بعشرة آلاف، فقلت: رضيت، فتمت الصفقة فدفعت له العشرة آلاف وقبضها، وبعد ساعة أو بعد ساعتين قلت: لا أريد هذا البيع، أو أقلني من البيع، فإن من حقك أن ترجع عن صفقة البيع ما دمتما في مجلس واحد.
وهذا يسمى خيار المجلس ولو جلستما عشر ساعات متواصلة فإنكما بالخيار ما لم يفارق أحدكما الآخر، فإذا خرج أحدكما ولو بعد إيجاب البيع بلحظة واحدة، فقد أوجب الصفقة، وليس من حقك أن ترجع إلا إذا أذن الشرع لك بالرجوع بأسباب معينة سنبينها.
إذاً: خيار المجلس يكون لك فيه الحق ما دام أنكما في مكان واحد، ومن هنا ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن رجلين من التابعين تبايعا فرساً، فقال أحدهما لصاحبه: بعني فرسك، فقال له: بكذا، فتبايعا وتمت الصفقة بينهما، وتم العقد، فناما في مكان واحد، فلما استيقظا قام صاحب الفرس وندم على البيع، ورجع عن بيعه، فقال له المشتري: لا يحل لك إني قد ابتعت وقد وجب بيعي، فاختصما إلى أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: والله لأقضين بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ورد الصفقة ورأى أنهما في مجلس واحد؛ لأنهما ناما في مكان واحد ولم يفارق أحدهما الآخر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) أي: يفارق أحدهما الآخر، فمضى قضاء هذا الصحابي رضي الله عنه بظاهر السنة.
ولذلك قال فقهاء الشافعية، والحنابلة، والظاهرية وأهل الحديث بمشروعية خيار المجلس، وأنه إذا تعاقد الرجلان في صفقة وهما في مجلس واحد فمن حق أحدهما أن يرجع وليس للآخر أن يلزمه، سواءً رجع بعذر أو بدون عذر، فهذا حق من حقوقه، فمن حقه أن يرجع ويقول: لا أريد البيع، وكنت أرغب فيه فأصبحت لا أرغب.
وهذا القول قضى به عبد الله بن عمر، وكذلك أبو برزة وحكيم بن حزام، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفقهاء التابعين رحمة الله على الجميع.
وخالف في هذا الخيار فقهاء الحنفية والمالكية، فعندهم أنه إذا قال: بعتك بكذا، وقال: اشتريت، وتمت الصفقة فليس من حقه أن يرجع، وأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول، وهو ما يسمى في الشرع: بالعقد.
واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١] فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا معشر المؤمنين أن نفي بالعقد، والعقد: بعتك واشتريت، فإن قال له: بعتك سيارتي عمارتي أرضي داري، فقال: قبلت، وتم البيع، وجب على البائع أن يفي فيعطي السلعة، ويجب على المشتري أن يفي ويعطي الثمن الذي وعد في مقابل الصفقة.
واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى، وأوّلوا حديث حكيم بن حزام، وقالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) المراد به: تفرق الأقوال، فأنت إذا قلت: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف سيقول لك: بتسعة آلاف بتسعة آلاف وخمسمائة بتسعة آلاف وسبعمائة، فقالوا: هذا الخلاف هو معنى قوله: (ما لم يتفرقا) أي: حتى يثبتا على قيمة معينة، والمراد بالتفرق هنا تفرق الأقوال، وليس بتفرق الأبدان.
وهذا ضعيف، والصحيح المذهب الأول: أن خيار المجلس مشروع؛ وذلك أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك.
ثانياً: أن دليل الآية عام مخصص بالحديث، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص).
ثالثا: ً أن الأصل في التفرق أنه يشمل الأقوال والأفعال، لكنه المراد به هنا الأفعال، بدليل أن ابن عمر أحد رواة الحديث والراوي أدرى -بما روى- كان إذا اشترى صفقة فأعجبته مشى عن البائع، حتى يتم البيع.
فدل هذا على أنه تفرق الأبدان، وليس بتفرق الأقوال.
رابعاً: أننا لو حملنا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال لم يصح لأنهما لا يسميان بيعين؛ لأنه لا يقع البيع إلا بعد أن يفصل القول، أما قبل أن يفصل القول فليس هناك بيع؛ لأن البيع إيجاب وقبول، فقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان) أي: اللذان باعا وأوجبا وتمت الصفقة بينهما.
وعلى هذا فالصحيح مذهب من سمينا أن خيار المجلس مشروع.
وهذا النوع من الخيار شرعه الله عز وجل لطفاً بالعباد، وتيسيراً على الخلق، ورحمة بهذه الأمة.
وقد وصف الله هذه الشريعة بأنها شريعة رحمة، ووجه ذلك: أنك ربما تستعجل وتقول: أبيعك بيتي بعشرة آلاف، ثم تراجع نفسك وتتبين أنه ليس من مصلحتك أن تبيع، وقد تشتري فيقول لك: بعتك السيارة بعشرة آلاف فتستعجل وتقول: قبلت، ثم تفكر قليلاً، وإذا به ليس من مصلحتك أن تتم هذه الصفقة، فالله عز وجل خفف على العباد، ولذلك يقولون: خيار المجلس شرع من أجل التروي ومن أجل دفع الضرر بالعجلة في الإيجاب والقبول.
وعلى هذا: فإنه خيار مشروع، وفيه خير كثير للأمة؛ لأنه يدفع آفة الاستعجال، والآثار السيئة والنتائج السلبية، المترتبة على استعجال الإنسان.