للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التدرج في دفع الصائل]

لما قال المصنف رحمه الله: (بما يغلب على ظنه) فمعناه: أنه لو شك وتردد، فعليه أن يتوقف، ويمتنع من الإقدام على شيء لوجود الشبهة، ولا يستحل دم الصائل إلا إذا غلب على ظنه أنه سيهلك، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفعه إلا بهذا.

فمثلاً: إذا وجه السلاح عليك إنسان، في بعض الأحيان يغلب على ظنك أن السلاح فيه حشو، وتعرف الشخص أنه يحسن استعماله، وتعلم أو يغلب على ظنك أنه سيقدم مثل الفاسق المتهتك الجريء على الفعل، أو سبق له أن فعل ذلك، فحينئذٍ يغلب على ظن الإنسان أنه سيقدم على فعل.

لكن لو كان الشخص ضعيفاً، ولم يغلب على ظن الإنسان أنه سيطلق عليه سلاحاً، وقد يكون من أهل المزاح والعبث، وحينئذٍ يصبح من غلبة الظن أنه لا يقتل، فحينئذ لا يستبيح.

إذاً: لابد أن يغلب على ظنه وجود استباحة النفس والدم، وأنه لا يمكن دفعه إلا بهذه الطريقة.

والدفع مراتب: أقلها وأول ما ينبغي أن يفكر فيه من الدفع: الكلام، فلو هجم شخص على شخص، وأمكن أن يدفعه بالأسهل والأخف، كأن يهدده بالكلام، ويقول له: إن هذا يضرك، ويعظه، ويذكره، ويغلب على ظنه أن الوعظ والتذكير سيؤثر؛ فلا يجوز له أن يضربه فضلاً عن أن يقتله، فضلاً عن أن يعتدي عليه؛ لأنه متى ما أمكن درء المفسدة بما لا ضرر فيه على الطرفين وجب وتعين المصير إلى ذلك، فإذا كان الكلام مؤثراً لم يجز له أن يقدم على الضرب.

كذلك أيضاً إذا كان بإمكانه أن يصرخ، أو يستنجد بعد الله بجيرانه، أو يتصل كما هو موجود في زماننا فيطلب نجدة، أو يتصل بالمعنيين من أجل أن ينقذوه، فهذا لا رخصة له إذا غلب على ظنه أنه سينجو، وأن هذا سينفع، وأن هذا سيحول بينه وبين أذية الغير له في نفسه أو عرضه.

كذلك المرأة إذا اعتدي على عرضها، وأمكنها أن تصرخ وتستغيث، فإنه لا يجوز لها أن تقدم على القتل.

أما إذا كان الكلام لا ينفع، فقد تدرج العلماء إلى مسألة الضرب، والضرب يكون على صورتين: الضرب بالجارح، والضرب بغير الجارح.

الضرب بالجارح: كالطعن بالخنجر، والجرح بالسكين.

والضرب بغير الجارح أيضاً على صورتين: يكون بالسوط وبالعصا، فالأشياء التي يُضرب بها، إذا أمكن دفع ضرره بالضرب نظرنا: فإن أمكن دفعه بالأسهل وهو الضرب بغير الجارح، فحينئذٍ إن ضربه بالجارح ضمن، وإذا كان قد أمكن ضربه بغير الجارح ننظر: فالسوط أخف من العصا، ثم السوط يختلف على مراتب، فالضرب بالسوط من الجلد، ليس كالضرب بأسلاك الكهرباء، ونحو ذلك، فينظر إلى الأخف؛ لأنه لا يجوز الارتقاء إلى الأعلى مع إمكان دفع الضرر بالأخف.

كذلك أيضاً: إذا تعذر دفع ضرره بالضرب، كالمرأة أو الرجل إذا هُجم عليه، فأمسك العصا، وهدد الذي يهدده أنه لو أقدم عليه فسيضربه بالعصا، فلا يجوز أن يمسك السلاح ويثوره عليه، كأن يطعنه بالسكين أو يطلق عليه النار؛ لأنه يمكن دفعه بما هو أخف.

ثم إذا كان جارحاً كالأسلحة الموجودة في زماننا، فالجارح الذي يستعمله الإنسان يفصل فيه: فإن كان قد صال عليه يريد قتله، وعنده سلاح يريد أن يدفع به، فهذا السلاح إذا أمكن أن يضرب الصائل في يده فيعطله عن قتله لم يجز أن يقتله، وإذا قتله ضمنه، ومن هنا: تفصل الشريعة ولا تعطي الإذن باستباحة دم الصائل إلا في حال التعذر، وأن جميع هذه الوسائل لا تنفع، ولا يمكن بحال دفع ضرره إلا بقتله.

فلو أنه وضع السلاح على حرمة الإنسان، وهدده أنه سيقتلها، وغلب على ظنه أن الرجل سيفعل، ولا يمكنه أن يضربه في يده، وغلب على ظنه أنه لو ضربه في يده قد لا يصيبه، فوجه سلاحه إلى رأسه من أجل أن يقتله مباشرة حتى لا يستطيع أن يقتل من تحت يده؛ حل له ذلك، وينذره إن وجد مجال للإنذار.

وكل هذا التفصيل محله ألا يشتبك الطرفان، فإذا اشتبك الطرفان، وكان الحال حال مغالبة، والرجل معه سلاح يقتل، وتصارع معه، وغلب على ظنه أنه إذا لم يقتله أنه سيصل إلى السلاح ويقتله؛ قتله، وارتفعت هذه التفصيلات كما نص عليها طائفة من المحققين من العلماء رحمهم الله.

فالتفصيل إنما يكون إن وسع الوقت، وأمكن تلافي الضرر، وأمكن التفكير في هذه الوسائل، أما لو هجم عليه هجوماً مباشراً، أو باغته وهو في بيته أو حرمته، ودخل عليه فجأة، أو دخل عليه وهو في غرفته، فلم يفاجأ إلا والرجل هاجم عليه، فحينئذٍ لو أخذ السلاح وقتله فله وجه عند طائفة من العلماء فيقولون: إنه يسقط التفصيل، لأنه لا يمكن؛ فهذا داخل عليه بسلاحه، وهو لا يستطيع أن تفكر أنه يقتل أو لا يقتل، ولا يدري هل هو سيبادر بالقتل أو يتأخر؟ فالظاهر أنه إذا دخل بهذه الصورة، فقد سقطت حرمته، وهو الذي أهدر دم نفسه، وحينئذٍ لا يودى وليس له حرمة، ودمه هدر.

هذا كله إذا وقعت المباغتة أو هجم على الإنسان هجوماً مباشراً، ويقع هذا في بعض الجرائم المنظمة، وقد يقع في المدن والصحاري، كل هذا التفصيل يذكره العلماء رحمهم الله متى ما أمكن للشخص أن يمعن النظر ويفكر، أما إذا لم يمكنه وباغته وهجم عليه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفع هذا الضرر إلا بقتله فإنه يقتله بكل حال.

وقوله: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه].

أي: فإن لم يندفع الصائل أو البهيمة: كأن هاج بعير، والبعير أو الثور إذا هاج فإنه يقتل، فإذا هجم على الإنسان، وأخذ يبطش بالناس، وأنت ترى بعينك أنه قتل هذا وقتل ذاك، أو هجم الشخص هجوماً لا يمكن دفعه إلا بالقتل، كأن يكون الشخص واقفاً في مجموعة من الناس، فهجمت عليهم عصابة، فابتدأت بقتل من أمامها، وغلب على ظنه أنه سيفضي إلى الهلاك، فإنه يقتل بكل حال، وحينئذ لا يمكن الدفع إلا بالقتل، وهذا يوجب الرخصة، سواء كان في الصائل المكلف، أو الصائل غير الكلف على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>