[مشروعية القرض]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض].
القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ١ - ما يقصد منه الرفق المحض.
٢ - ما يقصد منه القبض المحض.
٣ - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق.
أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا.
بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري.
النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية، أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض.
النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا.
بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح.
القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق.