[المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس]
السؤال
أيهما أفضل بعد صلاة الفجر: أن أنتظر حتى طلوع الشمس كما جاء في الحديث، أم المشي في الجنازة إذا وافَقَت جنازةٌ في صلاة الفجر؟
الجواب
الجنازة تنقسم إلى قسمين: إذا كانت جنازةَ مَن يعظُم حقُّه ويلزم بره كالوالدين ونحوهما، فلا إشكال؛ لأنها لازمة، ولا يُفَضَّل بين اللازم الواجب وبين المستحب المرغَّب.
أما إذا كانت جنازةً مِن عامة الناس، فحينئذٍ يكون السؤال مبنياً على التفضيل بين الحج والعمرة التامة التامة بالجلوس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق وصلاة الركعتين، وبين تشييع الجنازة، فإذا نُظر إلى التشييع ونُظر إلى الحج والعمرة وُجد أن فضل الحج والعمرة أعظم من التشييع؛ لأن الحج والعمرة من جنس الأركان، وفضيلة الحج والعمرة لا يُشك أنها من أعظم الفضائل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله قال: (إيمان بالله، ثم حج مبرور) فذَكَر الحج المبرور بعد الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ-.
هذا الوجه، دائماً إذا تعارضت عندك الفضائل في الطاعات ردها إلى الأصول، فالطاعة التي هي من جنس الأركان ليست كالطاعة التي هي من جنس المستحبات، والطاعة التي من جنس الواجبات ليست كالطاعة التي من جنس السنن والرغائب، وهكذا.
هذه أصول عند العلماء تُعرف عند ازدحام الفضائل، فجنس الحج والعمرة مقدم على جنس التشييع؛ لكن عند العلماء أصل آخر وهو أن الفضائل المتعدية ليست كالفضائل القاصرة، فتشييع الجنازة فيه فضيلة متعدية، وذلك من حصول الانتفاع للإنسان في نفسه والاتعاظ والاعتبار، وتعزيته للمصابين بمواساته لهم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى بدعةً ونهى وزجر عنها، فإن هذه الفضائل متعدية وأجورها عظيمة، قد تقتضي تفضيل الشهود على الحج والعمرة.
لكن يشكل على هذا أن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه، فإن هذا الذي ذُكر إنما يقع في بعض الجنائز دون بعضها، فليس في كل جنازة منكر، ثم إن المنكرات تختلف درجاتها، ثم ليس هناك في كل جنازة يتمكن الإنسان من بعض الفضائل المتعدية بحيث يمكن أن يحكم بها، فقد تكون الجنازة ليس لها أقرباء، ويكون كغريب توفي وليس له أقرباء يُعَزَّون، ونحو ذلك.
فهذا تفضيلٌ نسبي، والتفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه.
بناءً على ذلك، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن بقاءه إلى طلوع الشمس أعظم في أجره -إن شاء الله تعالى- من حيث الأصول.
لكن لا يمنع إذا وُجدت جنائزَ فُرادَى فيها نِسب تقتضي التفضيل من بعض الوجوه فإن هذا يقتضي تخصيص الحكم بها، وليس بعام من كل وجه.
ولذلك -وهذه الفائدة مهمة جداً- في بعض الفتاوى تجد المفتي يفضل شيئاً على شيء بالتفضيل النسبي؛ لأنه يُشكل عليه، فيرى ويقول: ربما لو أنك شهدتَ الجنازة لفعلتَ وفعلتَ، فيحكم بالتفضيل، وهذا ينبغي التنبه له؛ لأن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل المطلق.
ومن هنا أبو بكر رضي الله عنه فضُل على جميع الصحابة، مع أن بعض الصحابة خُصُّوا ببعض المناقب والمزايا؛ لكن التفضيل النسبي لم يقتضِ تفضيلاً مطلقاً على أبي بكر رضي الله عنه، فقد قال لـ سعد: (ارمِ، فداك أبي وأمي)، وخص حذيفة بن اليمان بأسرار المنافقين، حتى إن عمر احتاج أن يسأله، ويقول له: (أناشدك الله! أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال: لا.
ولا أزكي بعدك أحداً)، فهل هذا يعني أن حذيفة أفضل من عمر؟! نقول: هذا التفضيلُ نسبيٌّ.
فالتفضيل النسبي وورود الشرع بفضيلة خاصة من وجه خاص لا يقتضي الحكم بالعموم.
وهكذا في الفضائل هنا، فإنه إذا نُظر إلى وجود بعض الفضائل في بعض الجنائز لا يقتضي تفضيل شهود الجنائز على فضيلة الحج والعمرة من كل وجه.
والله تعالى أعلم.