[أنواع الحدود الشرعية]
قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.
وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.
هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود).
وهنا
السؤال
هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟ منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.
أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.
وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـ البغوي، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.
والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟ أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.
ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.
بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.
ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.