لو أن شخصاً ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبراً بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟ في المسألة قولان للعلماء: قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنيّة وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصَّى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصَّى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله.
وأيضاً: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر.
وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثُّلث، والزائد على الثلث يُرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أولاً: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين.
ثانياً: أن بيت مال المسلمين هو الذي يُكفنه لو لم يترك مالاً، فلو أنه لم يترك مالاً فمن أين سيُكفَّن؟ ومن أين سيُقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين رداً.
ويكون هذا أيضاً فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام:(إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد:(يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟)، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث.
وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام:(إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذٍ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون رداً إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالاً للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه:(إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة.