[الوقف على نسخ التوراة والإنجيل]
يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل] كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظوراً كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نَسْخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نَسَخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمناً وناسخاً للشرائع.
فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواءً كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسْخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره.
ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يُفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها.
فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكاراً تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقاً، وتجعل الحق باطلاً، وهكذا مثّل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية.
وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمورٍ إباحية تُفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى
السؤال
إذا أوقف على كتب محرّمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟ هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلاً على طبع كتب محرّمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه.
قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرّم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نَسْخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناءً على ذلك يرجع المال إلى صاحبه.
وعلى هذا القول لو أن ميتاً أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثاً شرعياً؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحُظِر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلاً- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة.
فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نُعْمِل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يُمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه.
فإن كان أوقف على نَسْخ التوراة والإنجيل صُرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسراً؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع.
كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلَوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تُصرف لطلاب العلم.
فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يُلغى هذا الأمر المحرّم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكراً لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل.
هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يُصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبنيٌ على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يُصرف إلى الجهة التي أذن الله بها.
قال رحمه الله: [وكتب زندقة] وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يُصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصَب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيُصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].
(إن) التي تفيد التوكيد {الشِّرْكَ لَظُلْمٌ} [لقمان:١٣]، وصفُه بالظلم، وجاء نكرة {لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] ثم يقول الله: (عَظِيمٌ)، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تُدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة.
كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة.
فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواءً كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل.
وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يُضِل إلى يوم القيامة والعياذ بالله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:١٣]، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة.
الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقاً، والحق باطلاً، ولبِّس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا.
فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائماً أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يُعصى به الله سبحانه وتعالى.
فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدُم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة.
يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو ليّ النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونوراً للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة.
والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثماً، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهلُ الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه.
ولكن لهذا الحق رجال يسخِّرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبُّون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون ب