[الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب]
السؤال
إن من الأمور الجاهلية التي لا يزال بعض الناس عليها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهل من قابلها بهذا الأسلوب يلام على فعله؟
الجواب
التفاخر بالأحساب والأنساب من بقايا الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، الناس كلهم لآدم وحواء، وهذا يدل على أن الأصل واحد، فإذا كان الأصل واحداً فما الذي جعل بني فلان أفضل من بني فلان؟ وما الذي جعل بني فلان أزكى وأشرف وأكرم من بني فلان؟ حتى كانوا في الجاهلية يقتلون المائة بالواحد! وهذا كله من عمل الشيطان الذي أدخله على عصاة بني آدم، ولذلك قال بعض أئمة العلم رحمهم الله: من افتخر بأصله ففيه شبه من إبليس؛ لأن الله يقول حكاية عن إبليس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، فهذا التفاضل والتعالي على الناس من شأن الجاهلية، والإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أنه لو صعد بنسبه إلى السماء وهو عند الله وضيع فإنه لا ينفعه عند الله شيئاً، وأنه إذا اتقى ربه وخاف ربه رفع الله قدره، وزكى شأنه وأمره ولو كان عند الناس وضيعاً، فالعبرة كل العبرة بما بينك وبين الله عز وجل.
وفي تاريخ الإسلام من الأئمة الأعلام أصحاب دواوين العلم والعمل، والأئمة الذين قادوا الأمة، وسطروا في دواوين المجد الصفحات المشرقة المنيرة، لم يفتخر منهم أحد يوماً بنسبه وحسبه، فالعاقل الحكيم يعلم أنه لا وزن له عند الله إلا بتقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن حكمة الله عز وجل أنه ما غيب عبدٌ خوفاً من الله في قلبه إلا أورثه الله محبة وعزة عند الناس، وكانوا يستدلون على خوف الإنسان من الله وخشيته لله فيما يوضع له من القبول، فإن كمل خوفه كمل القبول له من الله في الخلق، وإن عظم خوفه عظمت مكانته، وجلَّت منزلته.
هذا عطاء بن أبي رباح مولى من موالي العرب، أشل أفطس، ومع ذلك يدخل عليه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وهو في المسجد الحرام، ويسأله ويقول له: يا عطاء! سلني حاجتك، فقال له: إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله عز وجل، فلما خرج من المسجد قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك، فقال له عطاء: إني لأرجو الله أن يغفر لي ذنبي، قال: يا عطاء! ذلك ليس إلي، إنما أسألك أن تسألني حاجتك من الدنيا، فقال له: إني لم أسأل الدنيا من يملكها أفاسألها من لا يملكها؟! فقال سليمان بعد أن تولى لبنيه: يا بني! اطلبوا العلم فقد أذلنا العبد آنفاً بعلمه، قال: أذلنا، وهو في نظر الناس أعز! فلا ينفع الإنسان حسبه ونسبه إذا لم يقم أمره على تقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن نظر إلى الناس بقلبٍ مليء بالاحتقار، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يعرف بيته، ولا تعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يعرف نسبه، ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا به، شيءٌ لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل.
وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر على الناس مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية! تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحدٌ لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن.
فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناساً في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته.
الحسب لا يغني الإنسان عند الله شيئاً، إلا أن الإنسان الذي رزقه الله عز وجل حسباً مثل أن يكون من بيت معروف بالصلاح ومعروف بالعلم، أو من بيت معروف بالإمارة والوجاهة، وحافظ على هذه السمعة الطيبة آباء كرام من بيت عز وشرف وسؤدد، فحافظ على هذا المجد وسار على سيرة آبائه الطيبين، فأكرم الناس واحترمهم وقدرهم، واتخذ من هذا الحسب الطيب الكريم وسيلة لتربية أبنائه؛ لأن لهم عند الناس من المحبة والتقدير الشيء الكبير؛ ولأن آباءهم قد بنوا مجداً فلا يهدمونه، وأخذ من هذه المعاني ما يعين على التواضع، والحرص على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهذه نعمة من الله عز وجل على العبد، وهذا عصامي عظامي، عصامي حينما يبني مجده بنفسه بتوفيق الله عز وجل، وعظامي طاب معدنه، وإذا طابت الأصول طابت الفروع، إن الأصول الطيبات لها فروعٌ زاكية.
والله عز وجل إذا وضع البركة في بيت أو قبيلة أو جماعة أو أسرة في إمارة أو في علم في دين أو دنيا؛ وضع البركة فيها، وعرفت بالخير وعرفت باستقامة أمور الدين أو استقامة أمور الدنيا، فإذا حافظت هذه الأسر على هذه الأمجاد أبقى الله الخير فيها، وأبقى لها المحبة والتقدير وبارك فيها، وأورثها من حسن العاقبة ما لم يخطر لها على بال.
فلابد من المحافظة على الأصول الطيبة، وليس معنى كلامنا أن يضيع الإنسان نسبه أو يضيع حسبه، فهذه نعمة من الله أنعم بها عليه، لكن لا يتعالى على الناس، الذي يتعالى على الناس بنسبه فقد استذل الناس.
ولذلك في قصة عمر رضي الله عنه مع ابنٍ لـ عمرو بن العاص كان في مصر، وكان والده والياً على مصر، فذكروا في السير أنه أجرى سباقاً بين الناس، فكان فيهم ابن عمرو بن العاص، فسبق قبطيٌ ابن عمرو بن العاص، فأخذ ابن عمرو السوط وصار يضربه ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، حتى آذاه فأضره فسبقه، فجاء القبطي إلى عمر في الموسم واشتكى إليه، فسأل عمر الناس ووجده صادقاً فيما قال، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال له: إذا كان الموسم فاقدم عليّ أنت وابنك فلان، فجاء عمرو ومعه ابنه ثم لما دخل عليه، قال عمر رضي الله للقبطي: أهذا هو الرجل؟ -يعني ابن عمرو - قال: نعم، قال: دونك الدرة، فقام وضربه وأمره أن يضربه مثلما ضربه، فلما ضربه وأتم ضربه، قال: وجهها إلى صلعة عمرو، فقال القبطي: أما إني قد ضربت من ضربني، ومراد عمر بقوله وجهها إلى صلعته تعزير ولاته إذا أساءوا للناس وأضروا بهم، فامتنع القبطي وكأنه يقول: هذا الأمر ليس إلي، هذا لك أنت، وأدب من وليت، فقال عمر رضي الله عنه لـ عمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! الناس لهم حق، ولا يظن أحد أنه إذا لقي شخصاً فكأنه مملوكٌ له، فيحتقره للونه، أو يحتقره لفقره، أو يحتقره لمنصبه، لا أبداً، أو أنه إذا أصبح من بني فلان فإن الناس أصبحت دونه، لا، هذا ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، ولذلك تضيع حقوق الناس وتعظم مظالمهم حينما ينظرون بهذه النظرات، فتجد المظلوم يؤخذ حقه ولا يستطيع أن يصل إلى حقه؛ لأن فلاناً الذي ظلمه هو فلان، وحينئذٍ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها.
فعلى كل حال الشر العظيم، والحالقة -حالقة الدين وحالقة الشعر- أن يتفاخر بالأنساب على وجه تضيع فيه حقوق الناس، وتعظم به مظالمهم، وقد قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:١ - ٨] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١]؛ لأنهم كانوا يتكاثرون بأحسابهم وأنسابهم، وقال: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:٢] أحد الأوجه في تفسيرها أنه تفاخر بعضهم على بعض حتى عددوا الأموات، فذهبوا إلى المقابر، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:٢] يعني: وصل بكم التكاثر والتفاخر حتى بالأجداث والرمم وأموات الجاهلية، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:٤] وهذا تهديد ووعيد من الله لكل من يتفاخر في بنسبه.
فعلى كل حال؛ على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يحمد الله إذا رزقه الله بيتاً صالحاً وأسرة طيبة، فإن هذا لا يعني أننا ننسى البيوت التي لها فضل وشرف، خاصة إذا كانت عظيمة الخير على الإسلام، وعظيمة الخير على المسلمين، كالأسر التي عرفت بالآباء الكرام الذين كانوا بعد الله عز وجل آباءً للأيتام وللأرامل، سد الله بهم الحاجات، وفرج بهم الكربات، وأحسنوا إلى المؤمنين والمؤمنات، الآباء الذين أغلقت بهم أبواب الشرور، وفتحت بهم أبواب الرحمات، كانوا يسعون في الصلح بين الناس، وسد العوز والفقر وبذل الشفاعات الطيبات المباركات، ولا ينسى من كان من آبائه له مجد في الإسلام من إمارة وولاية، أو كان له مجد في الإسلام من نشر علم انتفع به المسلمون، فكل هؤلاء لا يذكرون إلا بالجميل، ويدعى لخلفهم أن يبارك الله فيه؛ لأن بقاء هذا الخير في هذه البيوت الطيبة فيه نفعٌ عظيم،