وإذا ثبت أنه يجوز التوكيل في الخصومة يتفرع عليه مسألة المحاماة، فإذا أراد أن يوكل محامياً للدفاع عنه فإن هذا مشروع من حيث الأصل، ويجوز للمحامي أن يدافع عن موكله ويقوم مقامه على تفصيل في هذه الضوابط وفي هذا النوع من التوكيل، فإذا وكل المحامي فلا يخلو وكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون محض تبرع، كأن يكون المحامي يريد أن يدخل في هذه القضية إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، وإنصافاً للخصمين دون أن يأخذ أجرةً، ودون أن يأخذ عمولة فهذا لا شك أنه من نصرة المظلوم، وهو مأجور من الله سبحانه وتعالى، ومن آثر ثواب الآخرة على ثواب الدنيا أعظم الله أجره، وبارك له في علمه، وبارك له فيما يكون منه، وهذه سنةٌ من الله ماضية: أنه ما من إنسان يعطيه الله علماً ويعطيه الله عز وجل عطاءً من فضل هذه الدنيا أو فضل الآخرة من علوم الدين فيرفق بالناس ويعاملهم بالآخرة ويرجو ثواب الله عز وجل ويقدمه على ما عندهم إلا آجره الله وأعظم أجره، وجمع له بين خير الدين والدنيا والآخرة،.
النوع الثاني من المحاماة: أن يكون بأجرة، وينقسم إلى قسمين: قسمٌ منه يكون بجُعل، وقسم منه يكون بإجارة، أما الذي يكون بالجعل فصيغته: أن يقول المظلوم أو صاحب القضية للمحامي: أثبت حقي أو إذا توصلت إلى حقي عند فلان أعطيك مائة ألف أو أعطيك خمسين ألفاً، فهذا جُعل، والأصل في الجعل قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[يوسف:٧٢] فقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ): يعني: جعلاً وعطية على إحضار هذا الصواع (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)، فهذا بالإجماع عند العلماء يعتبر جُعالة، وأجمعوا على مشروعية الجعالة، والجعالة تختلف عن الإجارة، فالإجارة تتجزأ، فإذا عمل العامل نصف العمل تعطيه نصف الأجرة، لكن في الْجُعل لو عمل تسعة أعشار العمل ولم يتمه لا يستحق شيئاً؛ فهناك فرق بين الجعل وبين الإجارة، ولذلك حديث الرقية عندما قالوا:(اجعلوا لنا جعلاً)، ورقي بالقرآن وشُفي اللديغ، وكذلك قصة المجنون لما شفي، هذا كله في الجعل، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز أخذ الأجرة على الرقية من باب الإجارة للشبهة، والمقصود: ما لم يشف المريض، فإذا كان الاتفاق بين الطرفين -بين صاحب القضية والمحامي- على أن يتوصل إلى حقه لم يكن له شيءٌ إلا إذا كان الحكم، وثبت أن الحق لصاحب القضية، فإذا دافع المحامي عن هذه القضية ومكث سنوات ولم يستطع أن يتوصل إلى حق الرجل فلا يستحق شيئاً، هذا إذا كان التوكيل في الخصومة بأجرة الجعل، أما إذا كان بإجارة فهذا فيه تفصيل، وإن شاء الله سنبين ضوابط الإجارة، ويسري عليه ما يسري على الإجارة من الشروط والأحكام التي ينبغي توفرها لاعتبار الإجارة على هذا الوجه الصحيح، إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أنه يجوز التوكيل في الخصومات.
سواءً كان الموكل وصاحب القضية حاضراً أو غائباً عنده عذر أو لم يكن عنده عذر في شهود مجلس القضاء.
ثانياً: يجوز التوكيل بأجرة وبدون أجرة على تفصيل من حيث الْجُعل والإجارة.
ثالثاً: مسألة التوكيل في الخصومة: من وكل في الخصومة، هل من حقه أن يقبض أو ليس من حقه ذلك؟ هناك تنبيه ينبغي أن ينبه عليه حينما قلنا بمشروعية المحاماة وأخذ الأجرة عليها: الشرط الذي ينبغي أن ينبه عليه أن محل الجواب والحكم بجواز هذا النوع أن يكون المحامي مقتنعاً أن موكله صاحب حق، أما إذا كان موكله -والعياذ بالله- ظالماً، وعلم ظلمه وأراد أن يقلب الحق باطلاً، فإنه -والعياذ بالله- يعتبر ماله سُحتاً وإجارته محرمة؛ لأن الله حرم التعاون على الإثم والعدوان، وهو شريكٌ له في جميع ما يترتب على هذه المحاماة من إضرار بالخصم.
فإذاً: قولنا بالجواز ينبغي أن ينبه على أنه ينبغي أن يكون المحامي مقتنعاً بأن موكله صاحب حق، فإذا اقتنع بأنه صاحب حق شُرِعَ له أن يدافع في حدود الحق الذي له، لا يزيد ولا يظلم.