[أمثلة في تعدي وتقصير الأجير في عمله]
ومعنى (يتعدى): يجاوز الحدود، كأن يأتي إلى شيء يحمل برفق فيحمله بعنف، أو يأتي إلى شيء يوضع برفق فيضعه بقوة، نحن نعلم في هذه الحالة لو أنه حمل كتباً ثم جاء ورماها بقوة، فتمزقت الكتب، فهذا تعد وإساءة، فنقول له حينئذ: تضمنها؛ لأن هذا من باب التعدي.
فلو حملت المرضع أو الخادم الصبي ثم رمته بقوة، فنقول: إن هذا تعد واعتداء؛ لأن مثل هذا ما يوضع بقوة، وإنما يوضع برفق، فمسائل الضمان لا تنحصر من حيث الصور والأمثلة، وإنما نذكر نحن أمثلة على حسب اختلاف الإجارات، وإلا القاعدة فيها: ألا يوجد تعد وألا يوجد تقصير، فإذا وجد التعدي أو التقصير فقد فتح العامل والأجير على نفسه باب المسئولية، ويتحمل تبعة كل ما ينشأ على تعديه وكل ما ينشأ على تقصيره.
(ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أيضاً؛ لأنه سيأتي إن شاء الله ذكره في الحجام والبيطار، وهذه الأمور -يعني: القول: إن الأجير لم يتعد ولم يقصر- تضبط بضوابط معينة، أي: أمر تصدره للأجير فإن مقتضى عقد الإجارة يلزمه بالتقيد بذلك الأمر، فلو طلبت منه أن يفتح شيئاً في حدود معينة ففتحه أكثر من ذلك الحد أو أقل وترتب على ذلك ضرر ضمن؛ لأنه في هذه الحالة قصر؛ فإن فعل ذلك وكان -والعياذ بالله- عن قصد ونية، أي: لو أنه فتحه أكثر مما يستحق عن قصد فترتب الضرر، فحينئذ -والعياذ بالله- يكون جناية وعدواناً، لكن إذا فتح الشيء وهو غافل ففتحه أكثر مما يستحق، أو أنقصه عما يستحق فحصل الضرر، فنقول: يضمن.
هذا بالنسبة للتعدي في تنفيذ الأوامر، وقد يكون التعدي من جهة العرف، فقد لا تأمره بشيء، فتأتي بشخص يقوم بعمل وأنت لا تعرف هذا العمل، كالكهربائي والنجار والحداد، وما عندك أمر إلا أن تقول له: أصلح لي هذا الشيء.
فحينئذ يتعدى إذا خرج عن ضوابط أهل الخبرة في عمله على هذا الشيء الذي يريد إصلاحه، فلو قال أهل الخبرة وأهل الصنعة: إنه يصلح بطريقة معينة، فمثلاً: يمر بمرحلتين، فأصلحه على مرحلة واحدة وتركه، فهذا تقصير، وعليه فلو جئت تشغل الجهاز ففسد فهنا يضمن؛ لأنه قصر في إصلاحه، صحيح أنك لم تخاطبه ولم تقل له: أصلحه على مرحلتين أو افعل فيه كذا وكذا؛ لأنك لا تعلم، لكن العرف يخاطبه وأصول الصنعة ومقتضيات المهنة تلزمه أن يتقيد بهذا العمل، فأنت حينما قلت له: أصلح.
كأنك تقول له: أصلح رحمك الله بما جرى عليه العرف؛ ولذلك المسكوت عنه في العقود مردود إلى ما تعارف عليه الناس.
وقد يكون التعدي من جهة -والعياذ بالله- قصد العدوان، فتعطيه أمراً أن يصلح شيئاً وهذا الشيء لا يمكن استصلاحه إلا بالرفق، فجاء بالعنف والقوة قاصداً إتلافه، فإنه يجب عليه ضمان ما ترتب على ذلك القصد السيئ من الضرر، فبعض العمال والأجراء -والعياذ بالله- يقدم على إتلاف الشيء في موقف معين أو عمل معين وهو يريد بذلك أن ينتقم، والله سبحانه وتعالى هو المطلع على الضمائر، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨].
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:٤] فالله لا تخفى عليه الخوافي، فإذا فعل هذا الفعل عن قصد وأذية فإنه يصبح في هذه الحالة بينه وبين الله مؤاخذ، وبينه وبين الله يجب عليه ضمان هذا الحق كاملاً، وعليه إخبار صاحب الحق عن حقه والتحلل منه، وإلا تحمل مسئوليته، فهو إن لم يضمن في الدنيا فسيضمن في الآخرة، وإذا لم يحلل نفسه في الدنيا فسيعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة.
فلذلك من حيث التعدي قد يكون التعدي بالأوامر فيجاوز هذه الأوامر، أو قد يكون على ما يضبط بالعرف، فهناك أشياء تحفظ بدرجات معينة ونظام معين وترتيب معين، فيخرج العامل عن هذه الأصول فيضمن.
كذلك هناك شيء من الضمان يدخل بسبب الجهل، فكل شخص ادعى صنعة وليس من أهلها، أو كان من أهلها ولكن جاءه عمل خارج أو مجاوز لحدود علمه، فإن أي شيء يترتب من الضرر على فعله يضمنه، وهذا سنقرره -إن شاء الله- في ضمان الأطباء، فمثلاً: لو أن رجلاً ادعى أنه يحسن الكهرباء، فجئت به من أجل إصلاح أجهزة، وهو لا يعرف إصلاحها، فأفسدها وأتلفها أو عطل بعض منافعها، فإنه يضمن تعدى أو لم يتعد، كل ذلك يوجب الضمان عليه، فالجهل موجب للضمان.
كذلك لو كان من أهل هذه الصنعة -كصنعة الكهرباء- وهو يتقن قسماً ولا يتقن قسماً آخر، والقسم الذي لا يتقنه يجب عليه شرعاً أن يقول: لا أعلم هذا الشيء.
أما إذا أقحم نفسه فيه فإنه يضمن.
هذا من حيث الأصول العامة: أن الضمان للأجير الخاص إذا وكلته فإن يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر.
وعلى هذا: فإنه يجب على المسلم أولاً ألا يحكم بكون الأجير الخاص ضامناً إلا إذا توفرت دواعي الضمان، ووجدت الأمارات والعلامات والشروط التي يجب توفرها للحكم بضمانه.