إذا كان الصلح على مقابلة مشتملة على معاوضة ومسامحة، فهذا النوع يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة.
والحطيطة مأخوذة من حَطَّ الشيء، والمراد بحط الشيء: أن يُسقِطَ الدائن شيئاً من الدين.
وقد تقدَّم معنا أنه لو قال الخصم لخصمه: سامحتك عن جميع المال، فهذه حطيطة بكل المال ولا إشكال فيها، فإما أن تكون هبة فحكمها حكم الهبات، وإما أن تكون صدقة فحكمها حكم الصدقات.
لكن صلح الحطيطة الذي ذكره العلماء هو أن يحُط بعض المبلغ ويُبقي بعضه، كأن يكون الحق ألف ريال، فيتنازل عن خمسمائة -أي النصف- أو يتنازل عن مائتين وخمسين -أي: الربع- أو يتنازل عن سبعمائة وخمسين -أي: ثلاثة أرباع- فيتنازل عمّا بعض الدين قليلاً كان أو كثيراً، يقول: سامحتك في النصف والنصف الباقي أعاوضك عليه، فيعاوضه عليه بنفس الصور المتقدمة معنا، فإما أن يعاوضه على عين فبيع، وإما أن يعاوضه على منفعة فإجارة.
هذا بالنسبة للصلح الذي جمع بين المعاوضة والمسامحة، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة، في جميع هذه الأحوال وجماهير العلماء والفقهاء رحمهم الله على جواز هذه الصور، والدليل على ذلك ما ثبت من الأدلة الشرعية التي سبق بيانها: فمن الكتاب كقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}[النساء:١٢٨]، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً)، وفي هذا الحديث دليل على أن ما اصطلح عليه الطرفان وتراضيا عليه دون أن يكون فيه تحليل لما حرّم الله، أو تحريم لما أحلّ الله؛ فإنه جائز ومشروع.
ومن النظر: أن هذا النوع من الصلح الذي ذكرناه إذا كان بمعاوضة وكان في حكم البيع فالبيع جائز، وإن كان في حكم الإجارة فالإجارة جائزة، وإن كان جمعاً بين المسامحة وبين المعاوضة بإجارة أو بيع، فكل ذلك مما أذن الله به، وأذن به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس على المسلم حرج في جميع هذا.
هذا بالنسبة للصلح مع الإقرار، وقد استفتح المصنف رحمه الله باب الصلح بهذا النوع، فبيَّن النوع الأول بقوله رحمه الله:[إذا أقر له بدينٍ أو عينٍ فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي، صحّ إن لم يكن شرطاه] بدين: مثلما ذكرنا، يقول للقاضي: لي على محمد ألف ريالٍ أعطيته إياها قرضاً، لأنه لا بد أن تكون الدعوى مستوفية للشروط، وسنبين هذا إن شاء الله في باب القضاء، فإذا كانت الدعوى مستوفية للشروط قال القاضي لخصمه: هل له عليك ألف؟ فإذا أقرّ أقر بدين، وفي هذا الحالة يكون الخصم قد أقر بدين.