للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيفية إزالة النجاسة غير الكلب والخنزير]

قال رحمه الله: [وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب] أي: غير الكلب والخنزير، فلو أن إنساناً كان عنده ثوب فوقعت عليه نجاسة من غير كلب أو خنزير؛ فكيف يتم تطهير هذه النجاسة؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول يقول: كل شيء وقعت عليه النجاسة من غير الكلب والخنزير فيجزئ أن تصب عليه صبةً واحدة تذهب عين النجاسة وأثرها ويجزئك ذلك، وهذا القول اختاره غير واحد من أهل العلم، ونُسب إلى جمهور العلماء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع أن العبرة في إزالة النجاسة إذا وقعت على الشيء من غير الكلب أن تصب صبةً واحدة منقية منظفة؛ فحينئذٍ يجزئك ذلك.

القول الثاني: لا يجزئ أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء وهو وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهر عمدته، وأصحاب هذا القول يقولون: إذا وقعت النجاسة على الثوب وأردت أن تطهره فلابد من ثلاث غسلات: تصب الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فإذا أتممت الثلاث حكم بطهارة المحل، بشرط أن يذهب عين النجاسة وأثرها.

القول الثالث يقول: لابد في التطهير من سبع غسلات، فلو غسلت بأقل فإن المحل يبقى نجساً، وهذا كما درج عليه صاحب الزاد هنا، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد: أنك تغسل كل شيء تنجس سبع مرات.

ولكن عند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي: الذين قالوا: تجزئ صبة واحدة، احتجوا بحديث بول الأعرابي، فإن الأعرابي لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) فأمر بصبة واحدة، فقالوا: إنه إذا صب صبةً واحدة على الماء كان كمثل صب الماء على بول الأعرابي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: صبوا عليه ثلاثاً ولم يقل: صبوا عليه سبعاً، وبناءً على ذلك يبقى المطلق على إطلاقه، فيجزئ في سائر النجاسات أن يصب عليها صبةً واحدة.

كذلك أيضاً استدلوا بدليل العقل، قالوا: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فنحن نحكم بنجاسة الثوب لوجود النجاسة، فإذا صببت صبة واحدة وذهبت النجاسة؛ فقد زالت العلة التي من أجلها حكم بتنجس الثوب، فينبغي أن يزول الحكم، ونقول: الثوب طاهر بصبة واحدة.

والذين قالوا: لابد من الثلاث لهم دليلان: الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء) كما هي رواية مسلم في صحيحه، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدل على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات، ويقولون: الغسلة الأولى تذهب عين النجاسة، والغسلة الثانية توجب الاستبراء لذهاب الأثر، والغسلة الثالثة استبراء للمحل، والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يناط بالغالب.

أما الذين قالوا بالسبع فاحتجوا بحديث أيوب بن جابر -وهو حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل النجاسة سبعاً).

وعند النظر نجد أنه لاشك أن القول الذي يقول بالتثليث في الغسل من القوة بمكان: أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة مع أن النجاسة مشكوك فيها، يقول: (فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء).

أما حديث الأعرابي الذي فيه صبة واحدة، فإنك إذا نظرت فيه فإنه ليس من قبيل الإزالة بالعصر، والإزالة في النجاسات التي يزال فيها عين النجاسة وأثرها بالعصر إنما يكون بالتثليث، أما في الأرض فإنه لا يتأتى فيها التكرار بمعنى: أنه إذا صب فكاثر الماء على البول؛ فإنه حينئذٍ يكون قد أزال النجاسة وأزال أثرها، فنستثني هذا الخاص من العام.

ومما يقوي دليل التثليث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث، مع أن الذين يقولون بالصبة الواحدة فيهم من يقول: إنه يجب التثليث عند غسل اليدين وعند الاستيقاظ من النوم، فإذا كان التثليث واجباً في نجاسة مشكوكة، فمن باب أولى أن يكون واجباً في نجاسة متيقنة، ثم وجدنا النظير في الاستنجاء، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار، فهذا يقوي أن النجاسة تزول بثلاث غسلات، ثم إن شاهد الحس يشهد أن الغالب زوال النجاسة بالثلاث، وأن الصبة الواحدة لا تزيل النجاسة في الغالب إلا بالكثرة، فما دام أنها لا تزيل إلا بالكثرة؛ فالأفضل للإنسان أن يحتاط ويجعل الصبات متكررة؛ فبدلاً من أن يصب بكثرة صبة واحدة؛ فإنه يحتاط بالثلاث لورود الأمر بها، ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أسبغ الوضوء غسل كفيه ثلاثاً، فكان هذا أدعى للمداومة على التثليث في إزالة القذر والنجس.

هنا تنبيه: إذا قلنا: إن النجاسة تزول بمرة واحدة أو بثلاث أو بسبع؛ فاعلم رحمك الله أن الحكم محله ألا يبقى أثر للنجاسة، فلو فرض أن إنساناً غسل النجاسة ثلاث غسلات وما زالت باقية فعند ذلك تجب الزيادة، إذاً: ليس قول من قال: إنها مرة واحدة أو ثلاث أو سبع معناه أن الإنسان يصب دون أن يراعي زوال النجاسة من المحل.

والنجاسة تزال كليةً فلا يبقى لها عين ولا أثر، وقد تزال ويبقى أثرها، وقد تزول العين ويزول الأثر وتبقى الرائحة، ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: إما أن تزيل النجاسة فيذهب عينها، وتذهب رائحتها، ويذهب لونها الذي هو الأثر.

الحالة الثانية: إما أن تزيل النجاسة، فيذهب عينها دون رائحتها.

الحالة الثالثة: إما أن تزيل ويذهب عينها دون لونها.

فإذا أزال النجاسة ولم يبق منها عين ولا لون ولا رائحة؛ فبالإجماع أنه قد طهر المحل، لكن يبقى اشتراط التثليث والتسبيع عند من يقول به، ومعنى عين النجاسة: أي: لو أن إنساناً وقع على ثوبه جرم من عذرة آدمي -أكرمكم الله- فإن العين المراد بها: الجرم نفسه، وكذلك الدم، فإن عِلَقَ الدم هذه هي عين النجاسة.

أما اللون فهو حمرة الدم، أما الرائحة فهي رائحة الدم التي توجد فيه، ولكن يقول العلماء بعض النجاسات لونها أبلغ من ريحها، وبعضها ريحها أبلغ من لونها، وبعضها يجتمع فيها التأثير بأن تكون قوية الرائحة قوية اللون.

بناءً على ما سبق: فإنه ينبغي للمكلف أن يزيل عين النجاسة وأثرها ورائحتها، فلو بذل الوسع في التطهير كما هو الحال في الدم المتجلط أو اليابس الذي يكون على الثوب ربما بالغت بحكه ولكن يبقى شيء من الأثر وهو الصفرة المتحللة، وهي آخر الدم ولا تخرج إلا بصعوبة؛ فهذا مما يعفى عنه.

إذاً: بقايا الدم من الصفرة التي يصعب إزالتها حتى مع شدة العصر والفرك لا تضر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به الصحابية أن تحته وأن تقرصه بماء وأنه لا يضرها أثر ذلك الدم، وبناءً على هذا تبين عندنا أن النجاسة فيها مسائل: المسألة الأولى: هل يشترط التكرار في تنظيفها؟ وقلنا في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول بأن العبرة بصب الماء دون التفات إلى عدد، وقول بالتثليث، وقول بالتسبيع، وأن الأقوى التثليث.

الأمر الثاني الذي نبهنا عليه في هذه المسألة: أن محل الخلاف ألا يبقى أثر للنجاسة، فإذا كان صب الثلاث وصب السبع وصب الواحدة يُبقي شيئاً من النجاسة فبالإجماع أنه مطالب بإزالة ذلك الأثر ولو بلغ إلى عشر صبات.

الأمر الثالث: أن النجاسة إما أن تكون قوية اللون والرائحة والعين، وهذه الحالة يجب فيها إزالة العين واللون والرائحة فإن بقي شيء من الرائحة أو اللون فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مما يشق زواله.

الحالة الثانية: أن يكون مما لا يشق زواله.

فإن كان مما يشق زواله عُذر المكلف فيه؛ وإلا فلا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>