فهذه الأمثلة الأربعة التي ذكرناها تشبه المستحاضة من كل وجه، لكن هناك مثال آخر يشبه المستحاضة من بعض الوجوه؛ ولذلك يعطى بعض الأحكام دون بعضها، مثال ذلك: من به سلس الريح، فإن الذي به سلس الريح يشبه المستحاضة من جهة خروج الخارج الناقض للطهارة دون وصف الخارج، فإن وصف الخارج في المستحاضة: دم نجس، ووصف الخارج في الريح ريح طاهر وليس بنجس، وقال بعض العلماء: إن الريح يعتبر نجساً إذا خرج من الدبر، ولذلك في مذهب بعض الفرق -بعض أهل الأهواء- التي لا يعتد بخلافها أنهم يوجبون على من خرج منه الريح أن يستنجي، وهذا مذهب ضعيف وليس بصحيح، فإن الريح لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، وإذا ثبت أنه لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، فعلى هذا يكون سلس الريح يأخذ حكم المستحاضة في بعض الأحكام لا في كلها، وبناءً على ذلك: يجب أن نحكم بأن الذي به سلس ريح يجب عليه وضع قطنة أو نحوها على الموضع حتى تمنع خروج الريح، إذا لم يكن في ذلك ضرر عليه، أو أن يعصر بطنه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذا بالنسبة لما يقاس على المستحاضة.
وقد يقاس على المستحاضة من جهة خروج النجس وتأثيره، صور أخرى؛ منها: لو أن إنساناً أصابه جرح ونزف -وقد قررنا أن الدم نجس كما تقدم معنا في باب إزالة النجاسات وبينا دليل ذلك- وثبت أن الدم نجس فما القول في هذا الرجل؟ هل نقول: إنه لا يصلي بناءً على أنه غير طاهر، أو نوجب عليه الصلاة ونأمره بالتطهر مع وجود المشقة عليه، أو نتوسط ونقول إنه يصلي على حالته؟
الجواب
من به نزيف فإنه يأخذ نفس حكم المستحاضة، فإذا أمكن رقء النزيف بأن توضع قطنة كالمستحاضة، بأن يكون النزيف خفيفاً، بحيث لو وضع في الموضع قطنة سكن نزيفه؛ فحينئذٍ يجب رقء الدم بوضع حائل من قطن أو قماش أو نحوه ولو بالشد وبالرباط.
الحالة الثانية: أن يكون النزيف قوياً لا يرقأ، فإن كان قوياً لا يرقأ فإنه يصلي ولو خرج معه ذلك الدم النجس، والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب، كما في صحيح البخاري، وكذلك أيضاً: ما جاء عن عباد بن بشر لما أصابه السهم الغائر حينما كان حارساً على فم الشعب، ومع ذلك صلى وجرحه يثعب دماً؛ لأن نزيف السهام نزيف قوي مستحكم، فمثله لا يرقأ؛ ولذلك تعتبر هاتان الحالتان مستثنيين من الأصل الذي يوجب غسل الموضع النجس.
ويلتحق بالنزيف: الرعاف، فلو أن إنساناً سألك وقال: أرعفت -خرج الدم من أنفه- فتقول: هذا فيه تفصيل: إن كان الرعاف خفيفاً فلا تصلِّ حتى تغسل الموضع ويسكن الرعاف وتصلي على طهارة؛ لأنه الأصل الذي أمرك الله بفعله.
الحالة الثانية: أن يكون الرعاف خفيفاً لا يرقأ من نفسه، وإنما يرقأ بالسبب كالاستحاضة، بأن يضع قطناً أو يسد الأنف، فنقول: حينئذٍ يكون حكمه أن يغسل أنفه قبل الصلاة، فيتطهر ويتوضأ ويغسل الموضع، ثم بعد ذلك يضع فيه القطن الذي يمسكه أو المنديل الذي يستمسك به ثم يصلي.
الحالة الثالثة: أن يكون الرعاف قوياً بحيث لا يستمسك، فحينئذٍ نقول: إن دهمه في الوقت وأخذ وقت الصلاة، صلى ولو رعف، ولا يكلفه الله إلا بما في وسعه.
هذا بالنسبة للصور التي يقاس فيها غير المستحاضة على المستحاضة.