الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: من قتل نفساً محرمة خطأً مباشرة، أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان كفارة القتل، وهذه الكفارة قد دل عليها الدليل الشرعي الثابت في كتاب الله عز وجل، حيث أمر من قتل خطأً أن يكفر، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله، ومن عادة أهل العلم أنهم إذا فرغوا من بيان مسائل القتل، والأحكام المترتبة عليها من الحقوق، والواجبات، من الديات للأنفس، والأعضاء، والجروح، والشجاج، والكسور، فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان حق الله عز وجل من وجوب الكفارة، وهذا حق لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن حق الله هو أعظم الحقوق، ولكن المقاصة والمشاحة في حقوق المخلوقين أكثر، ومن هنا أمر الله عز وجل بالدية المسلَّمة إلى أهل القتيل إن قتل خطأً، فقال:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:٩٢] فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الحق له جل جلاله، بعد أن رتبه على حق المخلوق:{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فابتدأ العلماء بالديات، وأحكام الديات، ثم ثنوا بعد ذلك بحق الله عز وجل، ومن هنا هذه الدية تكفر عن العبد، وأصل الكفارات: أنها تكفر الذنوب، بمعنى: أنها تسترها، وتذهب بلاءها وشقاءها عن صاحبها، فإذا كفر الله عز وجل للعبد ذنبه، فإنه قد أمن العبد من عقوبة الله عز وجل، وأمن من سوء السيئة في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، ولذلك سميت المغفرة كفارة للعبد، وقالوا: الكفر في لغة العرب أصله: الستر، يقال للباذر الذي يبذر البذر: كافر؛ لأنه إذا بذر البذر غطاه، فيقولون للمزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر، والكفر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: وفي ليلة كفر النجومَ غمامُها.
يعني: ستر النجومَ الغمامُ ولما كانت توبة الله عن العبد، ومغفرة الله للعبد تمحو ذلك الذنب، فكأنها صارت غطاءً لذلك الذنب، فكأنه لم يكن من العبد، فلا تراه عين، ولا يحس به أحد، فالكفر والغفر، معناهما متقارب، فلما كانت هذه الحقوق التي أوجبها الله عز وجل لقاء ذنوب معينة من العبد، سواءً كانت في الجنايات بين المخلوقين بعضهم مع بعض، مثل: كفارة القتل، أو كانت الجناية والاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى: كالجماع في نهار رمضان، أو كانت جامعة بينهما: كقوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهذا جعل الله عز وجل فيه الكفارة.
والكفارات كما تقدم معنا منها ما هو مغلظ، ومنها ما هو دون ذلك، فأعظم الكفارات المغلظة: عتق رقبة، ويترتب على ذلك، وجوب صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة، وقد جعل الله ذلك في الظهار، وجعله سبحانه في قتل النفس المؤمنة المحرمة, وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك في من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، هذه الكفارة المغلظة اعتنى العلماء ببيانها، وتقدمت معنا، ولذلك المصنف رحمه الله لم يفصل كثيراً فيها في باب القتل؛ لأنه تقدم معنا ما هي الرقبة التي تجزي، وبينا هذا في كتاب الصوم، وكذلك في كفارة الظهار، ولذلك أجمل المصنف رحمه الله الكلام في تفصيلات هذه الحقوق الواجبة.
الكفارة في الشريعة منها ما هو مخير؛ أي: يخير الإنسان فيها، ومنها ما هو مرتب، فإذا كانت الكفارة تخييرية، كقوله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة:١٩٦] فهذا كله على التخيير، يختار أي نوع من هذه الثلاث، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن بأو فهو خيار للعبد-يعني: يختار أيَّ واحدة منها فيجزيه- وما كان بثم فلا يجزي الثاني إلا إذا عجز عن الأول.
ومن هنا اختلفت كفارة القتل عن كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان: من جهة النوع الثالث وهو: إطعام ستين مسكيناً بدلاً من صيام شهرين متتابعين، والذي يقويه الدليل، ويختاره طائفة من أئمة العلم رحمهم الله: أنه لا إطعام في كفارة القتل، وأن الواجب هو عتق الرقبة، فإن عجز عن عتق الرقبة، أو لم يجد الرقبة، فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة من الله عز وجل على عبده، وإذا كفر بعتق الرقبة المؤمنة، أعتق الله كل عضو منه من النار، كما ورد في الخبر، وصحيح أن هذا التكفير ورد في قتل الخطأ، وجعل الله عز وجل هذه الكفارة في قتل الخطأ، ويجري مجرى الخطأ شبه العمد، وقد تقدم معنا ضابط الخطأ، وضابط شبه العمد، وبينا أن كثيراً من المسائل يشترك فيها شبه العمد مع الخطأ، ولذلك تجب الكفارة في شبه العمد كما تجب في الخطأ؛ لأن شبه العمد جرى مجرى الخطأ ولم يجر مجرى العمد، ولذلك لا يجب القصاص في شبه العمد، كما لا يجب في الخطأ، فهذه الكفارة جعلها الله سبحانه وتعالى في قتل الخطأ، ومن هنا يرد الإشكال: كيف يجب على الإنسان أن يكفر، مع أنه قد أخطأ ولم يكن متعمداً للقتل؟ هذا فيه تعظيم للدماء، وتعظيم لأرواح المسلمين، والدماء المحرمة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتساهل في تعاطي الأسباب التي تزهق أرواح الناس، كأن يتهور في أمر مثلاً: يحفر لعمارته دون أن يضع حواجز تقي الناس من السقوط في هذه الحفرة، أو مثلاً: يأتي إلى طريق سابل فيضع فيها شيئاً يوجب هلاك الأنفس، كل هذه الأشياء في مجامع الناس، أو في الأماكن التي يوجد فيها الصيد، ولكنها عامرة بالسكان، فلا يأمن إذا صوب بندقيته أو سلاحه أن يقتل شخصاً، أو يصيب شخصاً، فلما وضعت الشريعة كفارة القتل زجرت الناس عن التساهل، صحيح أنها لم توجب القصاص، ولكنها أوجبت الدية فعظمت دم المسلم.
هذا الفصل فصله المصنف، وبناه على ما تقدم، وذلك لوجود الإشتراك؛ لأن العاقلة تحمل الخطأ، وكذلك أيضاً الكفارة تكون في قتل الخطأ، فإذا قتل خطأً فإنه تجب عليه الدية، وأما قتل العمد فإنه لا كفارة فيه؛ لأن من قتل عمداً فقد صار الحق لأولياء المقتول، فإما أن يقتلوه، وإما أن يقبلوا بالدية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(فمن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد -يعني: يأخذ بالقصاص- وإما أن يودى -يعني: يأخذ الدية) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حال العفو عن القاتل بالكفارة، والصحيح من مذهب العلماء رحمهم الله: أن قتل العمد عقوبته القصاص، قال صلى الله عليه وسلم:(كتاب الله القصاص)، وفي كتاب الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة:١٧٨]، فإذا عفا المؤمن عن أخيه القاتل وسامحه، فقد سقط الحق في هذه الحالة، إن سامحه لبدل فحقه أن يأخذ الدية، وإن سامحه لغير بدل فقد عظم أجره وثقل ميزانه، والله عز وجل مثيبه على ذلك، حتى قال بعض العلماء: من فك الرقبة كان له أجر ما يكون فيها من صلاح وعبادة إذا بقيت، يعني: جميع ما يكون منها من طاعة وخير وبر، فهو في ميزان حسنات الذي عفا، وهذا يشمل كل من يتسبب في إنقاذ الأرواح، أو يكون مثل الأطباء ونحوهم، ويتسبب في إنقاذ إنسان من الهلاك، ناوياً أن يبقى فيعمر حياته بطاعة الله ومرضاته.
فإذا تنازل عن حقه وعفا، فقد سقط الحق كله، ومن هنا قالوا: لا كفارة في قتل العمد.