للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)]

السؤال

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟

الجواب

لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المُكرِه وتسقط القصاص عن المُكْرَه، فلا قصاص عندنا لا على المُكرِه ولا على المُكرَه، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاضٍ مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماماً، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة.

فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدراً، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوماً لوليه سلطاناً، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدراً.

فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جداً توجب التأثير في الحيلولة دون القتل.

ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحياناً شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)، مثلاً: لو أن شخصاً كان مسافراً مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا.

وكذلك في مسائل الخمر، فمثلاً: لو أن شخصاً معروفاً بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شراباً وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيراً فشربته فإذا به خمر، فحينئذٍ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضاً الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جداً.

ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>