[تقديم بر الوالدين]
السؤال
أبي رجل كبير في السن فهل الأفضل الاعتكاف أم بر الوالدين، مع العلم أن هناك أخوة لي يبرونه؟
الجواب
الله المستعان! ليس هناك شيء -يعدل بعد توحيد الله عز وجل وإقامة فرائض الله- بر الوالدين، ليس هناك أجمل ولا أكمل ولا أفضل من ساعة تلزم فيها رجل الأم أو رجل الأب تقضي حوائجهما وتنفس كرباتهما بعد توحيد الله عز وجل، وتفرحهما وتحسن إليهما، استجابة لأمر الله عز وجل الذي لم يقله المرة ولا المرتين، وإنما كرره وقرنه بأعظم الحقوق {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦]، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣].
من هذا الذي يستطيع أن يعدل اعتكافه ببر الوالدين؟ برك لأبيك وأمك أعظم، وإدخالك السرور على الوالدين أفضل وأجل، ولو كان ذلك لقضاء حوائجهم الدنيوية، ولو قال لك أبوك: اجلس في الدكان، فتجلس في الدكان وتبره، ويشهد الله بقرارة قلبك أنه لولا الله ثم بر الوالدين للزمت المساجد، وتحفظ دينك وتحافظ على القيام على الوالدين والإحسان إليهما، حتى إن الله تعالى يقول له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣]، وعبر بالمصدر ثم اختار أعظم كلمة في العبادة وهي الإحسان، فأحب شيء لله عز وجل أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه العبادة وصفها الله بصفة الإحسان (قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه)، وقال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]، ما خلق الله الخلق إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فاختار الله هذه الكلمة العظيمة التي اختارها لنفسه في عبادته، واختارها أيضاً للوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣].
تأمل كيف يأمر ربك سبحانه وتعالى ببرك لوالديك وجلوسك معهما وقضاء حوائجها، فلا يمكن أن يعدل بركوع وسجود في اعتكاف؛ لأن بر الوالدين حق واجب، والاعتكاف نافلة؛ ولأن بر الوالدين مفضل بعد الصلاة المفروضة، يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) قال عبد الله رضي الله عنه: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني).
احرص بارك الله فيك! على البر بوالديك، وخاصة في هذه المواسم الطيبة المباركة؛ مواسم النفحات والرحمات والخيرات، فيبحث الإنسان عن أقرب السبل وأقصرها مما يفضي به إلى جنة الله ورضوانه، ألا وإن من تلك السبل المحببة إلى الله: بر الوالدين.
واعلم أنها ساعة سعيدة حينما تفوز برضا الوالدين، وأي ساعة تلك الساعة إذا خرجت ووراءك أب صالح يرفع كفه إلى الله لك بصالح الدعوات! وأي ساعة تلك الساعة حينما تخرج ووراء ظهرك أم جبرت كسرها وأدخلت السرور عليها، وبددت حزنها، وعالجت سقمها ومرضها وداءها، وبردت كبدها وحرها وضمأها، وقمت على حوائجها، فخرجت من عندها وهي راضية عنك، فرضي الله عنك برضاها! أي ساعة تلك الساعة حينما تحس أن والديك راضيان عنك! ولو لم يكن في بر الوالدين شرفاً وفضلاً إلا أن الله قرنه بتوحيده، وأمر به أنبياءه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لكفى بذلك فضلاً وشرفا، ولكن من هو الموفق؟! ومن هو السعيد؟! يا هذا! لو تعلم ما لك في برك لأبيك خاصة حينما رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه، لو علمت ما لك في برك لأمك الحنون التي حملتك وأرضعتك وكابدت من أجلك وعانت ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لو علمت ماذا تساوي الدقيقة من الأجور والحسنات ورفعة الدرجات، وماذا تساوي من حسن الخاتمة عند الممات، لما تركت طاعتها لحظة.
فما رأينا باراً بوالديه إلا فتحت أبواب الخير في وجهه، ولا رأينا باراً بوالديه إلا سعيداً قرير العين، ولا رأينا باراً بوالديه ضاقت عليه الدنيا إلا نفس الله عنه ضيقها، ولا تكالبت عليه الأحزان والأشجان إلا بدد الله عز وجل همها وغمها، ما رأينا البر يعود إلا بالخير والفضل والبركة والإحسان.
كل إنسان رزقه الله أباً وأماً فليحس أن هناك أمانة، وأن الله ائتمنه عليهما عند المشيب والكبر، فماذا يغني لك الأحباب والأصحاب والسهر معهم والأنس بهم ووالداك بحاجة إليك؟ أي محروم هذا المحروم الذي يخلف أمه وراء ظهره مريضة سقيمة محتاجة إليه تئن وتحن، ثم يذهب ويحتال حتى يأخذ منها الرضا الملفق المزور، ويعلم الله من قرارة قلبه أنه خان والديه، وأنه قد غشهما، لكي يذهب ويدعي أنه يركع ويسجد وأنه يتقرب إلى الله عز وجل؟! من هذا المحروم الذي يترك والديه وراء ظهره، وهما أحوج ما يكونان إلى علاج أو دواء أو مال أو أي حاجة من الحوائج وهو قادر عليها؟! فاتق الله في والديك، والزمهما واحرص كل الحرص على إدخال السرور عليهما، فهما طريق الجنة، وفي الحديث: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.
قال: أتريد الجنة؟ قال: نعم.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، ما المراد بأن يضحكهما؟ هل بكلمة أو كلمتين؟ (أضحكهما) يعني: كن في حالة وهيئة وشأن وفي جميع أمورك تضحك بها الوالدين، حتى إن العبد الصالح قد تتكالب عليه هموم الدنيا وغمومها ويؤذى في عمله ووظيفته، ويأتي من عمله ووظيفته مكروباً محزوناً فيدخل على والديه ويكتم حزنه فيضحك معهما، والله يعلم كم في قرارة قلبه من الأشجان والأحزان، وكم من مكروب منكوب إذا دخل على والديه ضحك كأنه في جنة وفي سعادة، وهذا والله! لن يخرج إلا قرير العين برحمة ربه.
فليبحث الإنسان عن رضا الوالدين، وليبحث عن كلمة تبدد أحزانهما، وليبحث عن سرور يدخله على الوالدين حتى ولو كان بالحكاية والرواية، فإن المحسن بمجرد أن يجلس عند أمه يبحث عن كلمة أو قصة أو حكاية تدخل السرور عليها التماساً لمرضاة الله ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء:٢٢].
وقف العبد الصالح على والدين عند مشيبهما وكبرهما وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه لا يفتر ولا يتعب ولا ينصب، يجتهد ويجد في رضا الوالدين، هذه هي السعادة، وهذا هو طريقك إلى الجنة.
فعليك أن تبدأ بحق الله أولاً من الفرائض التي فرضها عليك، كإقام الصلوات وإيتاء الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك تثني ببرك لوالديك، فالتمس رضاهما، وجد واجتهد وشمر عن ساعد الجد في ذلك.
وبعض الأحيان الشيطان يدخل على الإنسان مدخلاً غريباً، يكون الوالد تاجراً، فيقول لولده: ابني! أريدك أن تجلس في الدكان.
صحيح أن هناك فتناً، ولكن الفتن من تعرض لها فتن، ولكن الإنسان إذا اتقى الله ربط الله على قلبه، فيأتيه الشيطان ويقوله له: الناس في عبادة، يركعون ويسجدون وأنت جالس تبيع وتشتري! أو تأتيه والدته وتقول له: أريد أن أذهب إلى المستشفى.
أو تريد أن تدخل السرور على أولادها، أو تريد أن تشتري شيئاً من السوق، فتجد الواحد يدقق ويبحث عن مآخذ، فيقول في نفسه: لا السوق فيه فتن، فيه كذا وكذا، نقول: نعم في السوق فتن، ولكن ابحث عن طريقة تستطيع أن تبر بها والديك، ولا تضيق الأمور، وتجده إذا أراد حاجة لنفسه ذهب إلى السوق في أعز أوقات الفتن، ولم يبالِ! والنفوس مجبولة على أن الشيء الذي للغير تنتقد فيه وتضيق فيه، والشيطان حريص على حرمان الإنسان من الخير.
اجعل بر والديك نصب عينيك، واتق الله عز وجل في الطريق التي تبر بها والديك، وسيسهل الله عز وجل لك ذلك؛ لأن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:٥ - ٧].
فإذا كنت في نيتك وقرارة قلبك حريصاً على برك لوالديك، فتح الله لك أبواب الرحمة، وأدخل السرور على الوالدين بك، إن من عباد الله الأخيار الصلحاء من فاز في رمضان وغير رمضان ببره لوالديه، فلا يعلم أحد مقدار ما فاز به من الدرجات والباقيات الصالحات إلا الله وحده.
فبر الوالدين هو الطريق إلى الجنة والرحمة والبركة والتوفيق، وهو الطريق إلى كل خير ورشد.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي في حاجة مكروب أو منكوب أو مسلم -يعني: في قضاء حاجة- أحب إلي أن أعتكف في هذا المسجد)، ويروى عن بعض التابعين، ويروى عن بعض السلف رحمهم الله.
وهذا من باب تقديم النفع المتعدي على النفع القاصر، ونقول أولاً: بر الوالدين فرض والاعتكاف سنة، وثانياً: إنك إذا بريت الوالدين ونويت الاعتكاف كتب لك الأجران، وثالثاً: إن بر الوالدين نفعه متعدٍ، والصلاة والعبادة نفعها قاصر، والنفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، والأمر الرابع: أن الأصل يقتضي في باب المفاضلات أن ينظر إلى حصول الضرر فـ (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، فبعض الإخوان إذا غاب عن والديه تشوشا، وهنا ننصح الأساتذة الفضلاء الذين يحرصون -جزاهم الله خيراً- على أخذ بعض الشباب الصغار إلى المساجد، وبالأخص الحرمين، أن ينتبهوا لهذا، وأنا من وجهة نظري أن بعض الصغار دخولهم الحرمين يضيق على من هو أكبر وأولى بالاعتكاف، وإذا نظر إلى شدة الزحام ودخول هؤلاء الصغار الذي بعضهم قد يعبث، وبعضهم قد لا يشعر بمعنى الاعتكاف، ولا يتأثر به التأثر المحمود، فلو اقتصروا على من يتأثر وعلى من ينتفع لكان أفضل؛ لأن الناس كثرت الآن وليس كما كان في السابق، وتعليم الشباب وتعويدهم على الخير يكون في أزمنة أخرى غير رمضان، ونحن لا نشك أن هذا من باب الخير ومن باب التعاون، لكن الذي نلحظه ونجده، وقد اشتكى لنا كثير من الناس، أنهم قد يأتون بعدد كبير من صغار السن ويدخلونهم إلى الاعتكاف، وهذا يؤثر ويضر في مزاحمة من هو أكثر خشوعاً وأولى بالعبادة ممن هو قاصر.
وخروج هؤلاء