للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[طالب العلم والتخصص في فن من فنون العلم الشرعي]

السؤال

متى يكون التخصص في فن من فنون العلم؟ وهل يستطاع الجمع بين فنون العلم أثابكم الله؟

الجواب

من أعظم الأسباب التي تعين على ضبط العلم -بعد الإخلاص وطلب العلم على أيدي العلماء، الذين ورثوا العلم من الأئمة الذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة- أن يكون طالب العلم منحصراً، فالانحصار يعين على الضبط، وهذا هو هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا منحصرين، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطلب العلم بعد وفاته، انحصر في زيد، واختار زيداً من بين الصحابة، فلازمه ولازم بابه حتى كان ينام على عتبته في شدة الظلام، وينام على عتبة بابه في شدة الهاجرة والظهيرة، ولازمه ملازمة عظيمة، حتى عرف ابن عباس بـ زيد، ولما بلغت وفاة زيد رضي الله عنه إلى أبي هريرة بكى أبو هريرة وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً).

وكذلك التابعون، فإن ابن عباس مثلاً لزمه أصحابه؛ كـ سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وطاوس بن كيسان، فهؤلاء لزموا ابن عباس وأخذوا عنه مع وجود غيره من الصحابة؛ لأن الانحصار يجعلك تأخذ الشيء على أساس معتبر، شريطة ألا يكون الذي تنحصر فيه قد خالف الدليل، فأنت تعمل بقول هذا العالم بحجته ودليله إذا كنت تثق بدينه وعلمه وضبطه وإتقانه، فتأخذ عنه وتضبط هذا العلم بالدليل، فإذا لقيت الله عز وجل لقيته وأنت تعمل بالدليل من الكتاب والسنة، فإذا خالف هذا العالم الدليل سألته عنه، فإن وجدت عنده جواباً مقنعاً له وجهه من الأصول المعتمدة عند العلماء فلا إشكال، وإن لم تجد عنده جواباً فأنت تحب العالم، وحبك للحق ينبغي أن يكون أحب من حب ذلك العالم، فالحق أحق أن يتبع، والحق أن يرضى، وليس لأحد قول مع قول الله عز وجل وقول رسوله عليه الصلاة والسلام.

وبناء على هذا الانحصار جاء الاهتمام بضبط العلم، وهكذا وجدنا أئمة السلف، فـ ابن عمر رضي الله عنهما كان له سالم بن عبد الله بن عمر ابنه، وكذلك نافع مولاه وغيره ممن أخذ عنه.

فإذا كان طالب العلم ينحصر ويأخذ العلم بضبط على يد العالم ويأخذ ما عنده، ثم ينتقل إلى غيره، فهذا أضبط وأكثر إتقاناً، ولذلك أخذ الإمام الشافعي عن الإمام مالك، ثم انتقل وقرأ على غيره بعد أن ضبط ما عند مالك، ورجع عن أقوال وبقي على أقوال، وظهر له الصواب في أقوال قالها الإمام مالك، وظهر له الصواب في أقوال لم يقل بها، وهكذا كان أئمة السلف.

فالهدف أن يعرف الحق، أما التشتت كأن يأخذ مثلاً الفقه من فلان وفلان، ويحضر الدرس الفلاني والدرس الآخر، وهذا العالم يرى أن مفهوم المخالفة حجة، وهذا يرى أن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وهذا يرى نوعاً من أنواع المفاهيم حجة، وهذا لا يراه حجة، فتارة يعمل بهذا الدليل، وتارة لا يعمل به، وفي العبادات ربما تكون المسألة في الباب الواحد يعمل فيها بأصلين متناقضين.

وهكذا.

فالذي يحث عليه العلماء هو لزوم الانحصار، وليس المراد به التعصب، كما يفهمه البعض فيتعصب لقول العالم حتى في وجه الدليل، إنما المراد به الضبط حتى تتعبد الله عز وجل بدليل واضح، وبأصل بين، وتلقى الله عز وجل بالحجة على سبيل درج عليه الأئمة، ولذلك فإن العلماء والجهابذة الأئمة كلهم أخذوا العلم بالانحصار، ولم يوجد عالم غالباً إلا وله أصل يعتمده، فنجد الفقهاء والمحدثين، وحتى أهل الظاهر لهم أصولهم ولهم أئمتهم وعلماؤهم ومجتهدوهم؛ كالإمام ابن حزم وغيرهم رحمة الله عليهم، وكذلك نجد أهل الحديث من أئمتهم وعلمائهم لهم أصولهم كـ إسحاق بن راهويه وغيرهم من العلماء والأئمة، ونجد أيضاً الأئمة الأربعة الإمام أحمد والشافعي ومالك والإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كلهم كان لهم أصحاب، وكلهم كان لهم أتباع، وكلهم قرر وبين وحكم وأفتى وقضى بما استبان له من دليل الكتاب والسنة على أصول رأى صحتها واعتمدها، ونصح للأمة فيها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه، ونسأل الله العظيم أن يعظم أجورهم، وأن يثقل موازينهم، وأن يرزقنا حبهم وإجلالهم وإكبارهم، ونسأله بعزته وجلاله أن يملأ قلوبنا من حبهم فيه، وأن يجعل هذا الحب شافعاً نافعاً يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وبالمناسبة: أوصي بحب العلماء من أئمة السلف، ومن سار على نهجهم، فحب العلماء قربى لله عز وجل، وإذا رأيت العالم الذي التزم كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالتزم محبته، وأحبه بحبه لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرت إلى أئمة السلف ودواوين العلم فعليك أن تعيش في هذا العلم طالباً للعلم، معظماً لحرمات الله عز وجل، وإياك أن تحتقرهم! وإياك أن ترضى بنبذهم وانتقاصهم وسبهم وشتمهم والحط من أقدارهم! فليس هذا من خلق العلماء، فإن من عرف العلم عرف فضل العلماء، وإذا وجدت الرجل في كتابته أو في كلامه أو في دروسه حريصاً على سب العلماء وانتقاصهم، ويبقى على أكتاف العلماء؛ فاعلم أنه ليس بعالم، فوالله لا يعرف فضل العلماء إلا من علم؛ لأنه لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل، ومن اكتحلت عيناه بالسهر وقرأ في دواوين العلم، وعرف بلاء الأئمة وتعبهم وشدة نصحهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأدرك عظيم فضل الله على هذه الأمة بهؤلاء العلماء، واعتقد أن الله سبحانه وتعالى اختارهم لهذه الأمة.

ووالله أنك إذا قرأت ذلك العلم الناصع المبني على دليل الكتاب والسنة وفهم النصوص؛ عرفت أن الله علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأن الله فهمهم، وفتح عليهم، وأن الله أراد بهم الخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فكم من معضلات ومشكلات ومسائل ونوازل نزلت على طالب العلم لم يجد لها حلاً إلا في كتب العلماء! ولولا الله ثم هؤلاء العلماء لما استطعنا أن نرقى المنابر، ولما استطعنا أن نجلس بين الناس، ومثل هؤلاء ينبغي أن نعتقد فضلهم.

وإذا قرأت في كتاب العالم وهو يثلب زيداً وعمراً، ويأتي إلى الفقه أو إلى الحديث أو إلى غيره من العلوم ويرقى على أكتاف من قبله، فلا تغتر بأوهامه، وهذا من أخطائه ومن أوهامه، وليس هذا من أدب العلماء، وننبه على هذا؛ لأنه قد شاع وذاع، خاصة في الأزمنة هذه الأخيرة، نسأل الله السلامة والعافية من مضلات الفتن.

وما وجدنا كتب العلماء إلا على إجلال العلماء في دواوين العلم، فتجدهم يردون على من خالفهم في المسائل الاجتهادية بكل أدب واحترام، فيقولون: ولا يجوز ذلك عندنا، وعند أبي حنيفة يجوز؛ ودليله كذا وجوابه: أنه منسوخ، ولم يقل: هذا من أوهامه أو من أخطائه، ولا تعول عليه، وغير ذلك من السب والذم: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨].

فهذا الثلب والانتقاص للأئمة والعلماء والحط من أقدارهم والجرأة على الانتقاص منهم هذا من درن العلم ومن زغل العلم، وعلى طالب العلم أن يأخذ ما صفا وأن يدع ما كدر، وأن يجني الثمار، وأن يلقي الحطب في النار، وأن يعلم علم اليقين أن من الواجب على خلف هذه الأمة أن يحفظ حرمة السلف، وأنه لا خير فينا إذا أصبحنا نربي طلاب العلم على انتقاص العلماء، وأصبح طالب العلم لا يمكن أن يعرف أنه طالب علم إلا بسبه للعالم الفلاني، والإمام الفلاني.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حبهم، وأن يجعل ذلك الحب خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>