[صريح القذف]
قال المصنف رحمه الله: [وصريح القذف يا زاني، يا لوطي، ونحوه].
بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يُعَاقبْ، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفاً مؤثراً موجباً للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف.
واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحاً وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفاً، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفاً مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح.
وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئاً آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهماً يطلب تفسيره، وما كان مجملاً يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان.
إذاً: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة.
قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولاً، فإذا قال لرجل: يا زانٍ، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقاً عارياً عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زانٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زانٍ، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد.
لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح.
وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كلٍ منهما، وإذا قال: يا زانٍ، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفاً قذفاً صريحاً، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمةً بالفاحشة أو تهمةً بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سُئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف.
وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [ونحوه]، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضاً قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواءً لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.