[يد المرتهن يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعدٍ منه فلا شيء عليه].
قوله: (وهو أمانة في يد المرتهن)، هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله أن يبيِّن فيها حُكم الرهن: هل هو أمانة أو مضمون؟ وهل يد المرتهن تُعتبر يد أمانة فلا تَضمَن إلا إذا فرَّطت، أم أن يده يد ضمانٍ فتضمن مطلقاً؟ وتوضيح هذه المسألة: لو جئت إلى رجل وقلت له: بعني بيتك بمائة ألف أعطيكها بعد سنة، فقال: قبلت، ولكن أعطني رهناً لقاء هذا المال، فأعطيته سيارة، فهذه السيارة رهن، فلو أنها تلفت في يومٍ من الأيام، فإما أن تتلف بسبب تعدٍ منه وتقصير، كأن يحرِّكها ثم حدث لها حادث فتلفت، فحينئذٍ يده يد ضمان، هذا إذا حرّك الرهن دون إذنٍ من الراهن.
هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي التي يقول عنها العلماء: إذا تصرّف في الشيء المرهون دون إذن من صاحبه، فالتصرُّف بدون إذنٍ من صاحبه تصرُّف يوجب الهلاك أو فساد السلعة، أو فساد العين، فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان، لكن لو أنه وضع الرهن عنده، فجاء شيءٌ وأتلفه بدون اختيارٍ منه، كأن يكون مزرعة فاجتاحها سيل، أو ثمرة فأصابتها جائحة، فهذا الفساد والتلف الذي تلف به الرهن بدون تقصيرٍ منك، وبدون تعدٍ، هل تضمنه أو لا تضمنه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فبعض العلماء يقول: من وضع عندك رهناً، بيتاً، أو أرضاً، أو مزرعة، أو متاعاً، أو طعاماً، ثم تلف هذا الشيء أو سقط، فإنّك تضمن، وتكون يدك يد ضمان على هذا القول.
وبناءً على هذا القول: فإنه إذا كانت قيمة البيت عشرة آلاف ريال، والدين الذي دُفِع في مقابله الرهن خمسة آلاف ريال، فحينئذٍ تكون يده يد ضمان للخمسة آلاف التي هي أصل الدين، والخمسة آلاف الزائدة يده يد أمانة، فلا يضمن إلا إذا فرّط، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله.
القول الثاني: من وضع عندك رهناً ولم تتعدّ ولم تفرِّط، بل حافظت على الرهن، فجاء بلاء وأتلَف هذا الرهن، وفسد بسببه هذا الرهن، فإنك لا تضمن، ويدك يد أمانة، فلا تضمن إلا إذا فرّطت، وهذا القول هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، وهو الذي سار عليه المصنِّف رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح -وهو حديث أبي هريرة -: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه).
فقوله: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه) يعني: من الراهن، وقوله: (له غنمه) يعني: إذا زاد سعره فإنه يزيد على ملكه وضمانه، وقوله: (وعليه غرمه) يعني: لو تلف بآفة سماوية ودون تعدٍ، أو تلف بدون تفريط ممن ارتُهِن عنده، فإنه يتحمّل المسئولية، أعنِي: صاحب الرهن.
وهذا القول هو الذي اختاره المصنِّف، وهو الصحيح.
أما أصحاب القول الأول، فقد احتجوا بحديثين ضعيفين: الحديث الأول: فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرهن بما فيه) أي: مرهون بما فيه.
وبناءً على هذا الحديث قالوا: (الرهن بما فيه) معناه: مَن وضَع عندك رهناً بعشرة آلاف، ودينُك عليه عشرة آلاف، وتلف هذا الرهن، فإنك حينئذٍ لا تطالبه بشيء، فالرهن تلف على ضمانك، ويدك يد ضمان على هذا القول.
الحديث الثاني: وهو حديث مرسلٌ ضعيف، وفيه: (أن رجلاً رهن عند رجلٍ فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نَفَق الفرس، فجاء الرجل يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ليس لك عليه من حق)، يعني: أن الفرس يُعتبر قيمةً لقاء الدين.
أما الحديث الأول -وهو من حديث أبي هريرة - فإنه يُروَى مرسلاً وموصولاً، وروايته موصولاً عند البيهقي بسندٍ ضعيف، وروايته مرسلة عند أبي داود في المراسيل بسند مرسلٍ صحيح، لكن المرسل لا يُحتج به ما لم يكن متصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فلا يقوى الاحتجاج به.
وأما الحديث الثاني -حديث الفرس- فإنه مرسلٌ ضعيف.
وعلى هذا: فالصحيح مذهب الجمهور: أن من وضع عندك رهناً، فإن هذا الرهن إذا لم تفرِّط ولم تتعدّ فيه فإنك لا تضمن، فلو قال لك: خذ هذا البيت واعتبره رهناً لقاء الأربعمائة ألف التي هي لك عليَّ، فأخذت البيت وسقط البيت وانهدم، فإنك لا تضمن إذا كان سقوطه بدون تفريط، لكن لو كان سقوط البيت وانهدامه بتفريط منك، كأن يعطيك البيت رهناً، فوضعت متاعاً في السطح أثقل السطح فانكسر وانهدم، فإنك تضمن؛ لأنك في هذه الحالة تعدَّيت، وحينئذٍ إذا تعدّت يد الأمانة ضمنت.
وخلاصة ما سبق: أن الرهن إذا وُضِع عند المرتهن ولم يتصرف فيه ولم يتعدّ ولم يفرِّط؛ فإنه لا يضمن إذا تلف ذلك الرهن، سواءً تلف كله أو تلف بعضه.