[الرجعة تعريفها مشروعيتها الحكمة منها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالرجعة في لغة العرب: مأخوذة من قولهم: رجع الشيء يرجع رجوعاً، والرجعة المرة الواحدة من الرجوع، وأصل الرجوع في لغة العرب: العود إلى الشيء، يقال: رجع إلى بلده، أو رجع المسافر من سفره إذا عاد، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة:٨٣].
فالمقصود: أن الرجوع هو العود.
وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله؛ فقد عرفها بعض أهل العلم بقولهم: عود المرأة المطلقة إلى العصمة من دون عقد، فالرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، وهذا الطلاق الذي تقع الرجعة بعده يشترط فيه أمور ينبغي توفرها للحكم بكونه طلاقاً رجعياً.
وقد تقدم الإشارة إلى جملة من تلك الأمور، وسيبين المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بارتجاع المرأة.
والأصل في مشروعية إرجاع المرأة بعد الطلاق دليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:٢٢٨] فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] فبين سبحانه وتعالى حكم رجوع المرأة بقوله: (فإمساك بمعروف) أي: بعد الطلاق، (أو تسريح بإحسان) إذا كان لا يرغب في المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً.
كما دلت هذه الآية الكريمة على المرأة التي يصح ارتجاعها، وهي التي طلقت الطلقة الأولى أو الثانية، بشرط أن يكون قد دخل بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:٤٩] فبيّن سبحانه وتعالى أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول أنه لا عدة عليها.
وعلى كل حال فدليل القرآن واضح في الدلالة على مشروعية ارتجاع المرأة المطلقة، ولذلك قال سبحانه في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:٢].
فدلت هذه الآيات الكريمات -آية البقرة وآية الطلاق- على مشروعية ارتجاع المرأة.
وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح حينما طلق امرأته وهي حائض؛ قال لوالده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) الحديث.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) يدل دلالة واضحة على أن الرجعة مشروعة، ومن هنا أخذ بعض العلماء وجوب ارتجاع المرأة المطلقة طلاقاً بدعياً في الحيض كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة رضي الله عنها واختلف في إسناده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم أتاه جبريل وقال له: إنها صوّامة قوّامة فارتجعها) فأمره بارتجاعها، فعلى القول بثبوت هذا الحديث -وقد حسن بعض العلماء إسناده، ومنهم من صححه لغيره- تصبح السنة دالة بالقول والفعل، بالقول في حديث ابن عمر في الصحيح، وبالفعل بهذا الحديث.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية ارتجاع المرأة.
والرجعة بعد الطلاق فيها حكم عظيمة، فهي من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وتيسيره لخلقه، وذلك أن الطلاق قصد منه إصلاح بيت الزوجية؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته لا بد في الغالب أن يطلقها لسبب، وهذا السبب إما أن يكون ناشئاً منه أو ناشئاً من المرأة أو ناشئاً من الطرفين.
فإذا طلق المرأة لعيب فيها، أو عيب فيه، أو فيهما، فإنه يدركه الندم ويدركها الندم، وربما يحتاج إلى تلافي وتدارك ما فات، فشرع الله الرجعة لكي يعود الزوجان إلى حياة أفضل من حياتهما فيما قبل، ففيها حكم عظيمة، إذ بها يستطيع الزوج أن يرد زوجته فيجبر الكسر الذي وقع بسبب الطلاق.
وانظر إلى حكمة الله جل جلاله، وعلمه بخلقه سبحانه وتعالى، وكمال تشريعه؛ أن جعل الطلاق ثلاثاً، فالطلقة الأولى ربما كانت بسبب أخطاء من الزوجة، بحيث لو أخطأت المرأة وطلقت، ثم أخطأ الرجل وطلق مرة ثانية، فإنه حينئذٍ يتلافى كل منهما الخطأ؛ لكن بعد هذا كونه يتلافى خطأه وتتلافى هي خطؤها فيحتاجان إلى معين أجنبي، فإذا طلق الطلقة الثالثة وكان الخطأ منه، فإن الله لا يحلها له ولا يبيح له رجعتها حتى تنكح زوجاً أجنبياً، فيتقطع قلبه حسرة ويتألم ويحس بخطئه، ويشعر بقيمة الطلاق، بحيث لو تزوج امرأة ثانية لم يمكن أن يعود إلى الخطأ، ولو أنها طلقت وانتظرها حتى طلقت من زوجها الثاني وحنّت إليه، فإنه يعود إلى حال أفضل وأكمل.
فكانت الطلقة الأولى والثانية رجعيتين، لكن الطلقة الثالثة ليست برجعية؛ لأن الطلاق إما أن يكون باستثارة من الزوجة أو يكون باستعجال من الزوج، وحينئذٍ أعطي الطلقتين: الطلقة الأولى أن يكون الخطأ منه، والطلقة الثانية أن يكون الخطأ منها، فإذا تكرر خطؤه مرتين أدب بالزوج الأجنبي، وإذا كانت المرأة هي التي آذت الزوج وأضرت به حتى طلقها الطلقة الأولى، ثم لم تتأدب وطلبت الطلقة الثانية أدبها الله عز وجل بالطلقة الثالثة، فإنها ستذهب وتعاشر غيره، فإما أن تلتزم الأدب وتحسن القيام على بيت الزوجية وتجده أفضل من الأول فتعيش معه حياة سعيدة، ويعوضها الله عز وجل، وتترك الخطأ وتتجنب استثارة الأزواج، وإما أن ينكد عليها الزوج الثاني ويريها فضل الزوج الأول، فيحصل الطلاق، وتعود إلى الأول بأحسن حال مما كانت عليه.
وهذا كله مبني على حكم عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فشرع الله الطلاق بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.
والحكمة فيه كما ذكرنا: أن الله شرع الرجعة بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، وجعل من الحكم في هذه الرجعة إصلاح ما كان من الخطأ، وعود كل من الزوجين إلى حياة زوجية أفضل.