للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)]

السؤال

ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟

الجواب

هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:١١٢]، هذا بالنسبة للنواهي، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:٣٤]، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبداً أن تكون في الدون، مثلاً: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة.

وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضاً.

فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر)، إما لكونه مظلوماً مضطهداً، أو يكون غنياً قوياً، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضاً: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضاً: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحياناً ينتقل -متفكراً- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموماً تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبداً؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقاً فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون مِنَّة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صافٍ من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقاراً لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبداً؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذاً إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيراً أو كبيراً إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحداً يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء.

-أما الأقوياء فلسنا بصددهم- إذا أرادت أن تزن الرجل حقيقة فانظر إليه مع الغلمان وانظر إليه مع الخدم، وانظر إليه مع من هم تحته، ممن جعل الله عز وجل فضله عليهم، فمثلاً: إذا كان عنده خادم، أو كانت المرأة عندها خادمة، فتجدها تتقي الله في هذه الخادمة، وتعطيها راتبها في وقته، ولا تؤخر راتبها ولا يمكن أبداً أن يحصل لهذه الخادمة مشكلة أو تضطر إلى معونة أو مساعدة إلا ساعدتها، حتى إن بعض الأخيار والصالحين -كما كان يذكر لنا بعض مشايخنا- يقول: والله! إنه ليأتيني الرجل الضعيف من ضعفاء المسلمين فيجعل الشيطان بيني وبينه من الحواجز والحوائل العديدة التي لا يعلمها إلا الله، كيف تعطي هذا وليس من جماعتك؟ ولا من قرابتك، ومع ذلك يكذب ويغش؟! فيأتيه الشيطان من كل حدب وصوب، قال: أتجاهل كل هذا وأتصور ما لو جاءني أعز وأقوى وأحب شخص، ماذا أفعل معه؟! فأرفع هذا الوضيع الضعيف، وأضعه منزلة ذلك الشخص المحبوب لدي، فأجلس أنصت إليه كأني أنصت لمن له عليَّ حق، أو أخاف منه أو أرجو منه نِعمِة، فإذا بالأمور تختلف تماماً، وعندها يشتري رحمة الله بتجاوزه وإرغام نفسه فيما يحبه الله، وصدق الله عز وجل في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧]، يشري نفسه أي: يبيع نفسه، فهذا الذي حفظ حق الله عز وجل في عباده المؤمنين لا يمكن أن يكون إلا في مثل هذه المواقف، ولا شك أنه يتبع ذلك حقوق؛ فلا يرضى بغيبة ولا يرضى بنميمة، ولا يرضى بسب مسلم ولا بشتمه، ولا بأخذ حقه، وأما بالنسبة لمراعاة وحفظ حقوق الله في المحارم، فإنه يكون أعف الناس لساناً وأتقاهم جناناً، وأصونهم جوارح وأركاناً، لا يمكن أبداً أن يقع في حرمة من حرمات الله، كلما أراد أن يتكلم تذكر أن الله سائله عن هذا الكلام، وكلما أراد أن يعمل شيئاً تذكر أن الله سيسأله عن هذا العمل، ومن الأمور التي تساعد على ذلك: أن يتصور الإنسان دائماً أنه في هذه اللحظة في لحده وقبره، ما الذي يتمناه؟ فإذا أردت أن تقدم على أي عمل، وأردت مرتبة الإحسان، فلتتصور رحمك الله أنك الآن ممدد في قبرك، فكيف تحتاج في قبرك إلى الحسد؟! حتى إن هذا الشعور إذا صحبك تتواضع للناس وتألف الناس، وتوطئ لهم الكنف، وتبذل لهم كل ما تستطيع، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد رزقه الإحسان في العمل وأتمها عليه بالإخلاص، فأصبح لا يتحدث ولا يتكلم بهذه النعمة ولا يباهي بها، بل يتمنى أنها سر بينه وبين الله، فإذا أراد الله عز وجل أن يزيده من فضله أخذه الشعور الذي يشعر معه أنه إذا أحسن إلى الناس أن الناس هم أصحاب الفضل عليه وليس هو صاحب الفضل عليهم، ولذلك تجد من الناس من يعطي ويحسن ولكن تذهب حسناته بالمن، ومنهم من يعطي ويحسن ومع ذلك يحس أن الذي جاءه بمسألته هو صاحب الفضل عليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ثلاثة أرى أن لهم حقاً عليّ: رجل نزلت به نازلة فجاءني من بين الناس).

انظروا كيف هذا الكرم.

وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل).

وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>